|
جدة - عبدالله الزهراني:
احتفت اثنينية عبدالمقصود خوجة برائد تحقيق الشعر الإسلامي والقديم في شبه الجزيرة العربية الأستاذ الدكتور عبدالعزيز الفيصل، الذي أسهم في جمع وتحقيق شعر المعلقات العشر وأشعار القبائل العربية.
وفي بداية حديثه شكر الفيصل (الاثنينية) على دورها الكبير في خدمة الثقافة، وعلى الدعوة الكريمة بأن يكون ضيفها لهذا الأسبوع، وقال: إن الاثنينية محط الرحال ومقصد الضيوف منذ ثلاثين سنة؛ فقد شهدت عباقرة العلم والثقافة والأدب والفكر، واستمع صاحبها الأديب والمفكر الموسوعي إلى دقائق العلم وشوارد الأدب وصور البيان, فإذا كان الأمر كذلك فماذا عساي أن أفعل؟ وهل أعثر على إضافة جديدة تكون معادلة للدعوة الكريمة الصادرة من رجل كريم، أبى عليه كرمه إلا أن يكون عاماً مثل الغيث نافعاً مثل المطر. لقد امتد نفع الاثنينية إلى أرجاء المملكة بل تجاوزها إلى العالم العربي والإسلامي؛ فللأستاذ عبدالمقصود خوجة الشكر والتقدير مني ومن كل من شهد الاثنينية أو انتفع بما طُرح فيها من أفكار نيرة وعلوم نافعة وآداب سامية.
وتابع الفيصل: «إن إسهاماتي في ثقافة بلدي تمثل جهد المقل؛ فأعباء المحاضرات في الجامعة على امتداد سنوات العمر لم تترك سعة من الوقت يتنفس فيها المؤلف بحرية؛ فالوقت محدود، والمؤلف يلهث خلفه؛ لعله يقتنص ساعة من نهار أو دقائق من ليل. وبما أن الدولة - رعاها الله - أتاحت لأعضاء هيئة التدريس التعاقد بعد سن التقاعد فإن الطمع في الدنيا لم يترك للمؤلف الوقت الكافي للتوسع في التأليف؛ فكثير من المتقاعدين من أعضاء هيئة التدريس - ومنهم ضيف الاثنينية هذا الأسبوع - فضّل الاستمرار في العمل, وأنا لا أقول إن العمل في الجامعة يبعد عضو هيئة التدريس عن التأليف؛ فالجامعة في صميم البحث العلمي، ولكن العمل يحد من حرية الكتابة, مع الفوائد التي تعود على عضو هيئة التدريس المتمثلة في مجالس الأقسام ومجالس الكليات والمجالس العملية ومجالس الجامعات، إضافة إلى اللجان وحضور المؤتمرات؛ فتلاقح الأفكار يحصل في هذه الاجتماعات، ويعود على عضو هيئة التدريس بفوائد جمة، أهمها أن يعيش مع تطور البحث العلمي ومستجدات التخصص والاطلاع على كل دقيقة وجليلة في تخصصه؛ فيسير في تخصصه على خطى ثابتة، مستفيداً من كل ما ينشر في كتاب أو مجلة أو نشر شبكي, ومستفيداً من زملائه أو غيرهم في تلك الاجتماعات من العلماء الذين يحضرون المؤتمرات ويتابعونها».
وأضاف الفيصل: وإذا قلت إن العمل في الجامعة يُحِدّ من الانطلاق في التأليف فإنما أقول ذلك عن موزانة بين مؤلف داخل الجامعة ومؤلف خارج الجامعة، فنلحظ غزارة إنتاج المؤلف خارج الجامعة وقلة إنتاج المؤلف داخل الجامعة، فالمؤلف داخل الجامعة محكوم بالتأليف للترقيات, والتأليف للترقيات محكوم بتوجيه القسم واختصاصه؛ فيمضي جزء كبير من عمر عضو هيئة التدريس في تأليف يُساق إليه، وقد يرغب في غيره، فإذا فرغ من الترقيات ووصل إلى درجة أستاذ فإن العمر قد تقلص ودرجة الأستاذية مطلب لعضو هيئة التدريس. أما أستاذ الكرسي في جامعاتنا فلم تتضح رؤيته؛ لأن الإشراف على الكراسي شيء، ولقب أستاذ كرسي شيء آخر.
واستطرد الفيصل في كلمته قائلاً: المؤلف خارج الجامعة منطلق، يملك وقته، ويملك توجهه في الكتابة، لا يحده حاجز، ولا يمنعه مانع؛ فهو يكتب فيما يشاء، ويسترسل فيما يشاء، وبذلك تنفتح أمامه الكتابة؛ فهو طائر مغرد في أجواء المعرفة، يقطف من ثمارها ما شاء. ومع ضيق الوقت بالنسبة لعضو هيئة التدريس وقلة إنتاجه التأليفي فإنه يُسَرّ عندما يرى غرسه قد أينع، فضيف الاثنينية لهذا الأسبوع يجلس في مجلس القسم بجانب زملائه الذين كانوا طلاباً له في ماضي الأيام، فمنهم الأستاذ والأستاذ المشارك والأستاذ المساعد، أما العاملون خارج الجامعة فهم كثر في التعليم العام وفي الوظائف الحكومية على اختلافها، فالعمل في الجامعة خدم المجتمع ونفعه، وهو الأساس في بناء الوطن.
وزاد الفيصل: إن عملي في الجامعة أسهم في التخطيط لصياغة لوائح الدراسات العليا في الجامعات السعودية عن طريق إسهامي في لائحة الدراسات العليا عندما كنت عميداً للدراسات العليا في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. ومع أني عضو في مجلس الجامعة وعضو في المجلس العلمي وعضو في مجلس الكلية فإنني لم أترك محاضراتي في الجامعة تحت أي ظرف؛ قمت بها عندما كنت رئيساً لقسم الأدب، وقمت بها عندما كنت عميداً للدراسات العليا. أما الإشراف على الرسائل فهو من صميم عملي؛ فالرسائل التي أشرفت عليها أو اشتركت في مناقشتها كثيرة، وكثير من الرسائل التي أشرفت عليها في شعر القبائل.
كما تحدث عن حياته التعليمية والعلمية من خلال دراسة الأدب العربي بكلية اللغة العربية بالأزهر، وعمله أستاذاً مشاركاً في كلية اللغة العربية بجامعة الإمام بالرياض، وتطرَّق لأبرز إصداراته والأسباب التي جعلته يهتم بالشعر، وأبرز الصعاب التي واجهته، وإسهاماته الصحفية الإذاعية.
وقال الدكتور الفيصل: نحن أبناء الجزيرة العربية نمر بالجبال والكثبان الرملية والدارات والمواضع والبلدان التي ذكرها الشعراء؛ فنستحضر شعرهم، ونستجيب لقول الشاعر، ونتأثر به؛ لأننا نقف موقفه، ونتمثل حالته؛ فالمكان يجمع بيننا وبين الشاعر، وإن كان الفاصل الزمني ينأى بالشاعر عنا، وقد تأثر بالأماكن التي ذكرها الشعراء، شعراء ومؤلفون خارج الجزيرة العربية، فنظموا القصائد في أماكن لم يشاهدوها؛ فـ(الأبيوردي) نظم ألف بيت في أماكن في نجد وهو لم يرها، ولكن سماعه عنها وقراءته الشعر أثارا وجده؛ فاستجابت عاطفته إلى صنع الشعر الرقيق الذي عُرف بالنجديات. فرؤية أماكن الشعراء في الجزيرة العربية أمنية للأبيوردي وغيره، ولما لم يستطع تحقيق تلك الأمنية جعلوها مادة أدبية ومصدر إلهامهم؛ فهي مورد عذب، يستقون منها متى شاؤوا عن طريق خيالهم الخلاق ورؤاهم التي تخترق الآفاق ومدوناتهم تدرس اليوم كما تدرس الأشعار الجاهلية والإسلامية.
واختتم الدكتور عبدالعزيز الفيصل بقوله: أختم كلمتي هذه بالثناء العطر على صاحب الاثنينية عبدالمقصود خوجة، راجياً من الله العلي القدير أن تكون الصحة رفيق دربه، والعافية تصحبه أنى كان، والطمأنينة تملأ فؤاده.
وكان صاحب (الاثنينية) عبدالمقصود خوجة قد استهل الأمسية بالحديث عن المحتفَى به قائلاً: ضيفنا الكبير الدكتور عبدالعزيز الفيصل أتاحت له حظوة الانتماء إلى هذه الأرض المعطاءة وإلى (نجد التاريخ) أن يكون أكثر تدقيقًا في تحقيقه لما ورد من إشارات إلى (المكان) في نصوص شعر الأقدمين، ولعله قد تجوَّل في تلك الأماكن متنسمًا عبير ذلك الزمان، ومنصتًا في سكون وتأمل لما توشوشه الريح من خبر من غبروا؛ لذا جاء تحقيقه متكاملاً للنصوص، وملامح البيئة وخصائصها، عادات إنسانها، في حله وترحاله وهنا - حسب تقديري - تكمن قيمة كبرى لمجهوداته المقدرة؛ فهي توثيق بقدر ما هي سياحة في الزمان والمكان، يمكن أن يستفاد منها في مناحٍ عديدة، ليس أقلها فهم هذه النصوص فهمًا أكثر عمقًا وشمولية؛ لذا استحق بجدارة لقب رائد تحقيق الشعر القديم والإسلامي في شبه الجزيرة العربية. وأضاف خوجة: ملمح آخر شديد الأهمية في مؤلفات الضيف الكريم اهتمامه بالمعاجم المختلفة التي خصصها لبعض الحقول الأدبية والفكرية.
بعد ذلك تحدث الدكتور عبدالله مناع عن عدد من خصال الدكتور الفيصل وإعجابه بموضوعيته ونزاهته ولغته المتفردة، منوهاً بجهوده في مجال الأدب والشعر القبائلي وتحديده الأماكن التي شهدتها بالوقوف عليها، وليس بـ (القراءة) عنها أو تتبع أخبارها في بطون الكتب ومعاجم تقاويم البلدان، مع شرح معانيها إجمالاً ومفرداتها تفصيلاً.
وقدم الدكتور مناع شكره وتقديره للمؤلف الأخير للفيصل، وهو (المعلقات العشر)، الذي وصفه بالإنجاز الأدبي العلمي التاريخي الباهر، والذي تتخطى قيمته وأهميته وفائدته طلبة المعاهد والكليات من الدارسين والباحثين أو الساعين لنيل درجتي الماجستير والدكتوراه إلى عموم مثقفي الأمة العربية ورجالاتها ونخبها في الداخل والخارج.
كما تحدث الدكتور يوسف حسين العارف عن المحتفَى به معتبراً إياه أحد الرموز وأعلام الثقافة في المملكة.
و(المتنوع المختفي) كما أسماه الدكتور عبدالله الوشمي؛ حيث يفاجئك بحياته العلمية والعملية التي قضاها في رحاب الشعر العربي القديم دارساً ومحللاً وناقداً ومؤرخاً وجغرافياً ونساباً.
وأشاد بجهود الفيصل المعرفية في تحقيق المواقع والأماكن الواردة في شعر الأقدمين، ولعله بذلك حقق السبق والمبادرة والتميز فيما لم يلتفت إليه الآخرون؛ فحقق كثيراً من المواضع والمواقع التي جاءت في الشعر الجاهلي وصدر الإسلام واقفاً على حقيقتها ومصححاً لما علق بها من أخطاء الشراح والنقاد والباحثين، فكانت تلك المواقع والمواضع مجالاً رحباً لزيارته ووقوفه على الطبيعة؛ ليحددها بأسمائها الحالية المعاصرة والقديمة الجاهلية.
الأستاذ عبدالرحمن المعمر كانت له مشاركة في الاثنينية؛ حيث نظم بيتاً من الشعر عن ضيف الاثنينية الدكتور الفيصل، قال فيه:
أبا فيصل أرفع جبينك إنني
أناشد المولى كفاك تواضعاً
وأشاد بجهود د. الفيصل في تحقيق الشعر، ومؤكداً أن هذا المجهود لم يسبق إليه، معتبراً أن نفع الاثنينية وإشراقاتها تجاوزت المملكة إلى خارجها، ومن المشرق إلى المغرب الغربي، وهكذا خدم الشيخ خوجة العلم والأدب، ورفع اسم بلاده أينما اتجه واتجهت إصداراته.
المداخلات
كانت المداخلة الأولى للصحفية منى مراد، التي تساءلت عن سبب تأليف كتاب (غريب الألفاظ المستعمل في قلب الجزيرة العربية)؟
فأجاب الدكتور الفيصل بقوله: ليس الهدف من هذا المعجم إثبات الألفاظ العامية. ونحن في المملكة نعيش في قارة، وكل إقليم يحتاج لمعجم مستقل، ولكنني جمعت الكلمات التي هي في الأصل عربية، ونحن في الجزيرة العربية عندما امتزجت البلدان (نجد والحجاز بالجنوب والشمال والشرق) مع بعضها ظهرت لغة جديدة، ونسي الناس الكلمات العربية التي اندثرت والكلمات العربية التي قلّ استعمالها، واستشهدت بالأبيات الشعرية، وهذا المعجم ليس في العامية ولكن لحفظ اللغة العربية، وللأسف لم يُلتفت إليه.
بعد ذلك انتقلت المداخلة للأستاذ صالح الغامدي، الذي وجه سؤالاً عن الناسخ والمنسوخ ومستوى الرسائل العليا التي لم تعد في الوقت الحالي بالمستوى العلمي المطلوب؟
فأجاب الدكتور الفيصل: فيما يخص رسائل الماجستير تدركون أن جامعات المملكة فيها مساران، مسار دراسة منهجية وبحث فقط، ومسار دراسة منهجية لمدة عام ثم رسالة ماجستير.
وُجد شيء آخر في السنوات الماضية، وهو الطلاب الذين يدرسون في الخارج؛ ففُتح في الجامعات القسم الموازي، وهذا القسم الموازي يقتصر فيه على الدراسة المنهجية والبحث الذي يشبه بحوث الكلية، فاليوم الطلاب كثيرون، ويدرسون في الأردن وغير الأردن، فالجامعات السعودية مضطرة إلى التوسع، وليس معنى ذلك أن رسائل الماجستير أضعف من الرسائل المعدة في الماضي، أبداً، ولكن المسارات التي جدت هي التي أتاحت الفرصة للدراسات المنهجية.
أما الأستاذة نورة القحطاني (الشاعرة جروح) فقد طرحت تساؤلاً بقولها: هل الشعر النبطي مستنسخ من الفصحى؟ وهل الشعر للدكتور الفيصل مؤلف فيه؟
فأجاب الدكتور الفيصل قائلاً: أولاً الشعر النبطي هو من الشعر العربي طبعاً، ولكن نحا منحى آخر، وإذا رجعنا إلى الأصول نجد أن الأنباط كانت لهم دولة من الحجر إلى وسط الأردن، ولعل الخط العربي هو الخط النبطي، هذا الخط الذي نكتب به، وأول ما رُسم الخط الكوفي، وهو مأخوذ من الخط النبطي؛ فلا شك أن الأنباط كان لهم تأثير، فهل الشعر النبطي عربي؟ هو ينطق به عرب، ولكن هو ليس خاضعاً للغة الفصحى التي هي لغة قريش، والتي نزل بها القرآن، وهو شعر ينطق به عرب، لكن لا يخضع للفصحى، بدليل الإعراب، ولا يمكننا أن نخضعه للإعراب، لكن أصوله في الأنباط، والأنباط أخذنا منهم الخط، وهم عرب، نزحوا وامتزجوا في أمم بالشام، ولا يوجد لي مؤلف في الشعر النبطي، ولكنني أستعين بالشعر النبطي في معرفة التاريخ، وخصوصاً في القرون الثلاثة الأخيرة؛ كونه يؤرخ لكثير من الأحداث التاريخية في الجزيرة العربية.
بعد ذلك انتقلت المداخلة للدكتور عبداللطيف بن دهيش عن طبيعة مؤلفات الفيصل في التاريخ؟
الدكتور الفيصل: لي كتابان في التاريخ، هما في إسهاماتي عن بلدتي عودة سدير، وكذلك الجزء الأول من مؤلفاتي في شعر القبائل فيه تاريخ أيضاً. فمثلاً عن شعر بني عقيل ذكرت دول بني عقيل في وادي العقيق ودول بني عقيل في العراق وجنوب الشام.
بعد ذلك داخلت نازك الإمام من إذاعة جدة، وتساءلت عن إمكانية ظهور كتاب يتضمن سيرة الضيف الذاتية؟
أجاب الدكتور الفيصل بقوله: السيرة الذاتية فن، وليس معنى ذلك أنها ذكريات لتاريخ الشخص، لا، السيرة الذاتية مقترنة بالقصة والرواية؛ فهي فن إبداعي، ومن يملك الأسس في هذا الفن فلا بأس من أن يمتع القراء بكتابة سيرته، أما إن كانت لكتابة تاريخ أو سيرة لحياته فهو لم يقدم شيئاً للقراء؛ فمن هذا المنطلق فإنني أقدم رِجلاً وأؤخِّر أخرى؛ لأنني أتساءل: هل سأقدم فناً؟ فإن كنت لا أقدم فناً يمتعهم فلا فائدة في التعرف على حياة عبدالعزيز الفيصل.