من رجاحة العقل وسلامة الفكر الاستفادة من سير من مضى، من أهل العلم والفضل والتقى، فقراءة التاريخ والسير سبب لصقل الذهن، وتحصيل الحكمة.
اقرأوا التاريخ إذ فيه العبر
ضلَّ قوم ليس يدرون الخبر
وقبل مدة يسيرة صدرت بحمد الله «سيرة الشيخ عبد الله بن عقيل وأهم مراسلاته» فسرَّت الخاطر، وأبهجت الناظر، صدر هذا السفر الجليل في خمسة أجزاء، مشحونة بالعلوم والفوائد، عمل على جمعها وترتيبها الشيخ: بلال الجزائري، وتمت طباعته بدعم من أوقاف الشيخ - رحمه الله وبارك في أبنائه -.
وقد يسَّر الله لي قراءته كاملاً فتذكرت شيخنا وهديه ودلَّه وما لمسته منه من جوانب وخصال تُميِّزُه، فأحببت في هذا المقال عرض طائفة من تلك الجوانب مع سرد جملةٍ مختارةٍ من اللطائف والفرائد التي احتواها هذا السفر النفيس.
فأقول مستعيناً بالله:
* إن من أهمِّ الجوانب التي تميَّز بها شيخنا أنه كان يجمعُ للطالب المتفرِّق، ويضمُ له النظير إلى نظيره، بأسلوبٍ قلَّ أن تجده عند غيره، من ذلك أنه كان يقول:
- الإدراكات في كتب الفقهاء ثلاثة: إدراك وقت، وإدراك ركعة وجماعة، وإدراك جمعة.
- وعند أول موضع يذكر الفقهاء فيه «السِّقْط»يقول:
الفقهاء يذكرون السِّقْط في باب كذا وفي باب كذا ... ويعدُّها.
- وفي كتاب الحج عند قول الفقهاء أنه يستحب الدخول من (كَداء) والخروج من (كُدى) يقول رحمه الله: افتح وادخل، واضمم واخرج.
- وكذلك في كتاب الحج يقول: البقاع أربع: مشعر حرام، ومشعر ليس بحرام، وحرام ليس بمشعر، وليس بمشعر ولا حرام، ثم يبيِّنها.
* ومن تلك الجوانب أنه كان يُنبِّه الطالب على النكت الشريفة والفوائد اللطيفة، ويستحسنها كثيرًا، ويحثُّ الطلاب على العناية بها، فكان يقول: الفقهاء - رحمهم الله - لهم تصرفاتٌ في كتبهم تدلُّ على كمال معرفتهم بحسن السَّبك وجودة العبارة، ينبغي لطالب العلم ألا يغفل عنها - أو كلامًا هذا معناه.
فمن ذلك أنه لمَّا شرح آخر جملة في متن «الزاد» - وكان ذلك ضحى الأربعاء 4 جمادى الأولى 1430 -، قال: المؤلف - رحمه الله - مثَّل في آخر مثالٍ بالخاتم إيذانًا منه بختم الكتاب.
ومما يتصل بهذا عناية الشيخ بالأدب والشعر، وذلك ظاهر في كلامه، فإذا تكلَّم تكلَّم بالكلام الفصيح، فألفاظه رائقة، ومعانيه فائقة، فلله دَرُّه حين يتناثر من فيه دُرُّه.
ومن اللطائف المتصلة بهذا أنه كان يقول: من ترك الحواشي ما حوى شي.
* ومن تلك الجوانب أنه طالت ممارسته لكتب المذهب وأدمن النظر فيها، فكان المقدَّم من أهل عصرنا في دراية المذهب ومصنفاته، خَبَر أبعاده، وسَبَر أغواره، وكان يدلُّ الطالب على مظانِّ المسائل، ففي أوَّل قراءتي عليه «ألفية المفردات» عند قول الناظم:
وصاحب الخصائص الكرامِ منفردًا بها عن الأنامِ
قال شيخنا: الشيخ منصور في «كشاف القناع» استوفى كثيرًا من خصائصه ? في كتاب النكاح.
وقال لي في المجلس نفسه: «ألفية المفردات» نظمٌ جليلٌ كان المشايخ يوصون بحفظها، ونحن حفظناها.
ومن ذلك أني سمعته يقول: ذكر الشيخ ابن قاسم في حاشيته على الروض ثلاثة أمور يُستدلُّ بها على فقه الإمام.. ويزيد الشيخ عليها.
* ومن تلك الجوانب أن الشيخ كان حكيمًا في توجيهه، صادقًا في نصحه للطالب، فأذكر مرةً أن شبابًا أتوا إلى الشيخ وسألوه عن أمورٍ لا تعنيهم ولا ينتفعون بها من بعض المدلهمات التي لا يتصدى لها إلا الكبار، فلم يجبهم الشيخ، وسألهم عن شروط الوضوء، فلم يستطيعوا عدَّها! فقال لهم الشيخ: احضروا معنا الدرس وانشغلوا بما ينفعكم بارك الله فيكم.
* وقد جمع الله عز وجل لشيخنا -رحمه الله- بين نفع الدراية وشرف الرواية، فهو مُلحِق الأحفادِ بالأجداد، وبإسناده شرفت نجدٌ على كثيرٍ من البلاد، فمن أسانيده العالية روايته عن شيخه عليِّ بن ناصرٍ أبو وادي عن شيخ المحدثين في الهند نذير حسين الدَّهلويِّ بسنده المعلوم.
هذا بعض ما يتعلق بشخصيته وسأسرد الآن شيئاً يسيراً مما قيدته من «سيرة الشيخ ومراسلاته»:
- حدثني الشيخ محمد بن إبراهيم أنَّ آل مقبل سكان القصور إذا أتاهم ضيف صعدوا الجبل وصادوا ظبياً أو أكثر.
- 230 كيلو عسل صافي فاخر بمئة ريال!.
- قال الملك عبد العزيز للشيخ: (لا تخرج عن رأي الشيخ محمد بن إبراهيم.. واستعن بالله.. واقرأ كتاب «الآداب الشرعية»)
- قال الشيخ ابن سعدي: إنَّ الشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ عبد الله بن حميد والشيخ عبد الله القرعاوي لا يوجد لهم مثيل.
- كنت أوَّل عضو يُعيَّن في دار الإفتاء.
- كان الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - يلقي الدروس في السوق ضحى الإثنين والخميس.
« (فتنة جهيمان)، وفيها:
- قام الشيخ عبد الله بن حميد -رحمه الله- بتسجيل موعظة لهم وأذيعت عليهم فأبوا الرجوع.
- ذكر اجتماع المشايخ وفتواهم في هذا الأمر، والبيان الذي أصدروه، وذكر من وقَّع عليه.
- فتحت الدولة أبواب الحرم بعد تطهيره مساء الخميس 17 محرَّم 1400هـ.
- عملتُ في القضاء في عهد خمسة من الملوك وهم : الملك عبد العزيز والملك سعود والملك فيصل والملك خالد والملك فهد - رحم الله الجميع- وفي تلك المدة لم يُنقض لي حكم من فضل الله، ولم يبعث لي من يحقق معي، ولا كُفَّت يدي عن العمل، وليس هذا بحول مني ولا قوة، إنما هو بمحض فضل الله وستره وتوفيقه.
- قال الملك سعود: ما أحد متكلمٍ في عالم من علماء المسلمين إلا خسيس خالي من التقوى والإيمان.
- كتب الشيخ عبد الرحمن بن قاسم تاريخاً كبيراً ثم أحرقه قبل موته رحمه الله.
- الشيخ علي الهندي شرح الكتب الستة كاملة في الحرم.
- قال الشيخ محمد بن مانع: (ابن سعدي عنده تأييد من السماء).
- شرح حديث « الدين النصيحة» لابن باز.
- تبرع الشيخ ابن باز براتب شهر مساهمة منه في تسليح الجيش السعودي المظفَّر.
- بحث للشيخ ابن عثيمين في توسعة المسعى.
في فوائد أُخَر لا يتسع المقام لذكرها، إلَّا أنني أختم مقالتي هذه بالإشارة إلى أنَّ شيخنا لما مرض في آخر شهر محرم من العام 1432، ودخل في غيبوبةٍ استمرت أشهرًا؛ لم يشعر طلابه أنهم فقدوا شيخاً فقط، بل فقدوا شيخًا معلِّمًا وأباً مربياً وموجِّهًا ناصحًا.
يبكيه طالب علمٍ كان علَّمه وتائهٌ عن سبيل الرُّشْد أرشدهُ
سحَّت على ذلك العدلِ الرضى دِيَمٌ من الرِّضى وأنار الله مرقدهُ
ولمَّا وافت المنيةُ شيخنا في 8شوالٍ 1432؛ حلَّت فاجعةٌ بالعلم وأهله، وكنت أستذكر - وأنا أحمل مع الجموع نعشه - قولَ ابن المعتزِّ:
وما كان ريح المسك ريح حنوطه
ولكنَّه هذا الثَّناء المخلَّفُ
وليس صريرُ النَّعش ما تسمعونه
ولكنَّه بنيان قومٍ يُقصَّفُ
ولما دُفن الشيخ -رحمه الله- تذَّكرتُ قولَ أبي الطَّيِّب:
ما كنتُ أحسبُ قبل دفنكَ في الثَّرى أنَّ الكواكب في التُّراب تغورُ!
أسأل الله أن يسبغ على شيخنا شآبيب الرَّحمة والغفران، وأن يرفع درجته في المهديين، وأن يجزيه عنَّا خيرًا كثيراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتبه: خالد بن ماجد بن عبد الرحمن الرشيد العمرو - حامدًا مصليًّا مسلمًا، سحر الاثنين 22 ربيع الآخر1434