على طريقة فيلم كارتوني تم إلغاء مهرجان الشعر الخليجي بنادي تبوك الأدبي قبل يوم واحد من إقامته! رئيس اللجنة المنظمة للمهرجان “عبدالرحمن الحربي” حمل المسؤولية الأستاذ عبد الله الكناني، مدير عام الأندية الأدبية، والدكتور ناصر الحجيلان، وكيل الوزارة للشؤون الثقافية.
ذاكراً أنها تدخلات وضغوط اعتراضاً على بعض الأسماء المشاركة بالمهرجان، ولعل أشهر هذه الأسماء هو محمد بودي الإداري الأدبي المثير. لكن هناك مثقفين آخرين بأدبي تبوك اعترضوا على المهرجان لأنه همش شعراء المنطقة.. وقد اصطخب الإعلام خاصة الافتراضي وبالتحديد تويتر (عاشق الفضائح) بما لذ وطاب من تعليقات الردح! بعدها انفجر قرار من العيار الثقيل لوزير الثقافة والإعلام بإقالة الكناني وتعيين الأديب حسين بافقيه الذي أوضح أنه سيتعاون مع الإعلام من أجل أندية أدبية كما يريدها المثقفون.
هكذا يبدو السيناريو الدرامي باختصار، لكنه ليس وحيداً بل سلسلة متتابعة مما يعتبره بعض أعضاء الأندية الأدبية تدخلاً من الوزارة في شؤون أنديتهم، ولعل قرار الوزير كان له بعداً تراكمياً لأحداث ساخنة مثل تلك التي حصلت حول انتخابات الأندية الأدبية خاصة أدبي الأحساء وأدبي الدمام..
فما تنفك العلاقة بين حين وآخر أن تنفجر بين أحد الأندية الأدبية وبين إدارة الأندية الأدبية بالوزارة، رغم تأكيد الوزير رفضه لتدخل الوزارة فيما يحصل داخل الأندية الأدبية. فالأندية الأدبية الآن هي سيدة نفسها وذات شخصية اعتبارية مستقلة إدارياً ومالياً كما تنص لائحتها. وهي بالأساس تشكل مجلس إدارتها عبر الانتخابات.
رغم ذلك، ورغم استمرار تأكيد استقلالية الأندية من قبل مسؤولي الوزارة سواء من وكيلها للشؤون الثقافية أو من مدير عام الأندية.. ورغم أننا نشهد تطوراً ديمقراطياً ثقافياً من الوزارة سواء المباشر منها كانتخابات الأندية الأدبية أو غير المباشر في ارتفاع سقف حرية التعبير، فلا زلنا نشهد توترات في العلاقة بين الأندية والوزارة.. فهل المشكلة إدارية في تداخل الصلاحيات، أم شيء آخر؟
في تقديري أن الإشكال بنيوي في ذات الثقافة المجتمعية الأبوية.. فلدينا ثقافة غير ديمقراطية حتى لو كان المسؤول الإداري عن الأندية مثقفاً سينساق اجتماعياً وثقافياً لفرض وجهة نظره بين حين وآخر على أحد الأندية باعتباره “ الأب” صاحب القرار الأخير.. هكذا وضعه المجتمع! فالنسق الاجتماعي والثقافي الأبوي سيقوده لفرض وجهة نظره، لأنها تمر تحت مجال نفوذه؛ فيصدر أنظمة أو إقالة أو تعيين وفقاً لهذا السياق الاجتماعي.. سياق الحسم الفردي “الأبوي” والأمر والنهي حتى لو كان هو مثقفاً متمرداً فيما مضى.
هذا لا يعني أننا سنظل أسرى لهذا السياق غير الديمقراطي، بل يعني أن الجو الديمقراطي الجديد سيواجه صعوبة في التطبيع مع حالتنا الثقافية السائدة. لكن الأجواء الديمقراطية الجديدة في الثقافة ستفعل فعلها تدريجياً، لأن أعضاء مجلس إدارة كل ناد هم منتخبون، ولأن كل ناد يضم حالياً كافة التيارات بأجواء ديمقراطية على خلاف ما كان عليه الوضع سابقاً حين كان لكل ناد توجه محدد، بل وإقصائي في كثير من الحالات..
ولعل قرار الوزير، وهو مثقف وشاعر، بإقالة الكناني وتعيين بافقيه يعطي مؤشراً واضحاً على الاستجابة الديمقراطية لتوجهات المثقفين. لكن ثمة مفارقة هنا؛ فالوزير أصدر قراراً من أجل حماية الطريقة الجديدة ولكن بنفس الطريقة القديمة، فالقرار يندرج في طبيعة السياق الاجتماعي السابق: قرار “أبوي” حاسم ينهي المسألة لصالح الديمقراطية الثقافية! ذهب ضحيتها مدير الأندية الأدبية الذي يمكنه أن يعتبرها طريقة تعسفية. والمفارقة أصلاً في وجود مدير عام للأندية الأدبية التي تعتبر مستقلة، كما أن هذا المدير معين بينما رؤساء الأندية تم انتخابهم ديمقراطيا! فكيف يكون المعين مديراً للمنتخبين ديمقراطياً كما قال الكاتب محمد العصيمي؟
في كل الأحوال تلك طبيعة مرحلة انتقالية يحصل بها ازدواجية ومفارقات، لكن من الواضح أن بقاء المسؤول الثقافي في كرسي النفوذ لأمد طويل أصبح من الماضي. والمسؤول الذي كان كاتباً أو أديباً سيعود قريباً لصفوف المثقفين، فعليه أن يتذكر ذلك عندما يصدر قرارته.
المثقف الفلاني يتحول إلى مسؤول، والمسؤول الفلاني يتحول إلى مثقف.. فما الذي يتغير فيهما؟ الذي يتغير هو الأدوات والوسائل وليس شخصية الفرد.. لذا ستظل العلاقة بين المثقف والسلطة علاقة جدلية رغم أنهما يسعيان لهدف واحد وهو خدمة الثقافة والأدب، لكنهما يختلفان في الوسائل. هذه العلاقة تندرج في الصراع الطبيعي بين مجالي نفوذ: النفوذ الواقعي (الإداري أو السياسي) والنفوذ الفكري.. بين صاحب قرار وبين صاحب فكرة. وهذا الأخير لا يقل نفوذا في بعض الحالات، لذا تراه يتمرد بسهولة قياساً بتمردات الآخرين، ولذا سمي الإعلام بالسلطة الرابعة.
والساحة الإعلامية السعودية تشهد حراكاً ثقافياً يعطي دوراً متزايداً للمثقفين من الكتاب والصحفيين في الانخراط بقضايا المجتمع وما يتصل به من المؤسسات، مما جعل بعض الجهات الرسمية تتذمر من نقدهم الذي تزعم أنه تجاوز الموضوعية، وتطالب عن حق وعن غير حق بردع هؤلاء خاصة في الإعلام الافتراضي!
كل هذه الأجواء أثرت كثيراً في دور المثقف السعودي، فقد كانت أنديتنا الأدبية تنحصر غالباً في الثقافة النخبوية، ولكنها الآن تعلب أدواراً متنوعة وتضم تيارات متعددة.. فيما انخرط المثقف في قضايا المجتمع؛ ففي فترة التحولات يصعد دور المثقف لأنه مرتبط بتشكيل الوعي الجمعي، فيحدث للعلاقة بين السياسي والمثقف إعادة تشكيل يصاحبها توتر..
يسعى السياسي والمثقف إلى غاية واحدة (خدمة المجتمع)، لكنهما يختلفان في الوسائل (الوظيفة).. فوظيفة مؤسسات السلطة هي الحفاظ على الاستقرار وتطبيق الأنظمة وضبط المؤسسات، بينما وظيفة المثقف النقد وطرح الأسئلة المحرجة ونزع القداسة عن المؤسسات القديمة.. أو كما يقترح ماكس فيبر، بأن السياسي مشغول بالأهداف المباشرة، بينما المثقف مشغول بالغايات الإنسانية الكبرى؛ السياسي يبحث عن الإمكانية بينما المثقف يبحث عن الأفضلية.. الأول معني بالواقعية والثاني معني بالحرية والحقوق.. المسؤول مسؤلياته محددة نظاماً حسب تخصصه والمثقف مسؤولياته مفتوحة على القضايا العامة تتجاوز تخصصه. والخلاصة أنه طالما أن المثقف سيتدخل في الشأن العام، فإن المسؤول لن يتوانى عن التدخل في شؤون المثقفين ما لم توجد أنظمة صارمة لحماية استقلالية المثقف وحريته.
alhebib@yahoo.com