شهدت المملكة العربية السعودية نقلة نوعية وكمية في التعليم الجامعي غير مسبوقة في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود؛ حيث بلغ عدد الجامعات الحكومية والأهلية (34) أربعاً وثلاثين جامعة؛ فقد تم افتتاح (17) سبع عشرة جامعة في عهده الميمون، الحكومية منها هي:
جامعة حائل (1426هـ)، وجامعة الجوف (1426هـ)، وجامعة جازان (1426هـ)، وجامعة نجران (1427هـ)، وجامعة تبوك (1427هـ)، وجامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن آل سعود (1427هـ)، وجامعة الحدود الشمالية (1429هـ)، وجامعة الدمام (1430هـ)، وجامعة الخرج (1430هـ)، وجامعة شقراء (1430هـ)، وجامعة المجمعة (1430هـ)، ومؤخراً الجامعة الإلكترونية (1432هـ). والجامعات الأهلية: جامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا (1428هـ)، وجامعة الفيصل (1428هـ)، وجامعة الأمير محمد بن فهد (1429هـ)، وجامعة الأمير فهد بن سلطان (1429هـ)، وجامعة دار العلوم (1429هـ)، إضافة إلى عدد من الكليات الجامعية ودور التدريب.
إن المتتبع لهذه الإنجازات من تزايد عدد الجامعات والكليات ودور التدريب، والتأكيد على التخصصات العلمية من طب وهندسة وصيدلة وحاسب آلي وتقنية المعلومات، ليجد أن المستهدف الرئيس لهذه الإنجازات هو إنسان هذا الوطن وثروته الحقيقية بتوفير سبل المعرفة له، وإنتاجها وتحويلها إلى قيمة مضافة إلى الاقتصاد الوطني، من خلال صقل قدرات ومهارات الإنسان السعودي بإكسابه المعرفة التي وفرتها القيادة الواعية والمبدعة، المتمثلة في نشر الجامعات في معظم محافظات المملكة، التي بلغت (79) تسعاً وسبعين محافظة، والتي سوف تؤتي ثمارها في المستقبل القريب بإذن الله. تلك هي الثروة الحقيقية (التعليم في المملكة نموذج متميز وركيزة رئيسية للاستثمار والتنمية، والأجيال القادمة هم الثروة الحقيقية؛ والاهتمام بهم هدف أساسي).
وإن من أبرز سمات القرن الحالي الحادي والعشرين في مصادر الثروة هي توفير جيل متعلم وأفكار مبدعة، فمثلاً وادي السيليكون بأمريكا الذي تم تدشينه في الستينيات من القرن الماضي بولاية كاليفورنيا هو الذي أنتج الشركة العملاقة Google، وغيرها، وإن مفهوم الاقتصاد المعرفي من خلال ما يسمى بالـFace book اخترعه طالب لم يستطع أن يسدد رسومه الدراسية، وإن (57 %) من الاقتصاد العالمي عبارة عن اقتصاد معرفي. إن توفير التعليم الجامعي في معظم محافظات المملكة هو الاستثمار في الإنسان، إنسان هذا الوطن السعودي، إنها نظرة القيادة الثاقبة، قيادة القرن الحادي والعشرين الذي يتسم بسمات مميزة؛ ذلك أنه يضع في اعتباره حاجات البيئة الداخلية والخارجية، وهي عملية تواصل وتفاعل متواصل، تتغير حسب الموقف والظروف؛ حيث تعود ديناميكية القيادة إلى التغيرات في البيئة الخارجية وما يرتبط بها من تغيرات في البيئة الداخلية من سياسات واستراتيجيات وهياكل تنظيمية، وكذلك التغير في الأحاسيس والمشاعر والتعاملات الإنسانية.
إن القيادة التحويلية هي الأسلوب القيادي الملائم والمناسب لمرحلة التحول نحو القرن الحادي والعشرين ومواجهة تحدياته؛ لما تتميز به من التأثير القائم على القدوة والمثال وتعزيز قيم التغيير وتطوير مهارات العاملين.
فالقائد التحويلي يدرك الحاجة إلى التغيير، ويسعى لصياغة الرؤية والرسالة للمؤسسة التي يقودها، ويختار نموذج التغيير في تكوين الاستراتيجية الجديدة، وغرس الالتزام بالتحول نحو التغيير من خلال نشر ثقافته بين أفراده، ويملك مهارات فكرية جديدة بإدراك محتويات البيئة الداخلية والخارجية وما يترتب عليها من أحداث وتفاعلات بين أعضائها والآثار المترتبة على سياساتها، والتركيز على عملية التحول من المدخلات إلى المخرجات، وتوظيف التخطيط الاستراتيجي باستمرار، مع تمتعهم بمهارات فنية للتعامل مع التقنية ومهارات اتصال في تنمية العلاقات الشخصية والإنسانية واستخدامها في قيادة الفريق، وشحذ همم الأتباع. ويتميزون أيضاً بخصائص غير تقليدية من حب المغامرة المحسوبة والثقة بالآخرين، وموجهون بالقيم، ويملكون القدرة على التعامل مع التعقيد والغموض وعدم التأكد، وهم قادة التغيير وأصحاب رؤى وأحلام، يترجمون تلك الرؤى والأحلام إلى حقائق. تلك هي دأب القيادة الرشيدة والواعية التي أدركت أن التعليم الجامعي مؤسسة مجتمعية تفاعلية، تمارس التأثير في مجتمعها، وتتأثر بكل ما يواجهها من تحديات محلية وإقليمية وعالمية، مع السعي لبناء الإنسان السعودي بتحقيق تكافؤ الفرص التعليمية بين أبناء الوطن الواحد، بتوفير وإيصال التعليم الجامعي إلى جميع مخرجات التعليم الثانوي في معظم مناطق ومحافظات المملكة، وما يترتب عليه من الحد من الهجرة الداخلية لأبناء المحافظات التي لا يتوافر فيها التعليم الجامعي، وتحاشي تزايد الطلب والضغط على المدن التي يهاجر إليها هؤلاء طلباً للتعليم الجامعي، والحاجة إلى تضاعف الخدمات على المدن من إسكان ومواصلات واتصالات، وما ينتج منها من اختناقات مرورية وحوادث، وغيرها من السلبيات التي لم يتسنَّ للمدن أن تضعها في حسبانها عند عملية التخطيط المدني من نواتج الهجرة الداخلية، ناهيك عن تزويدهم بالعلم وتأهيلهم بمهارات المستقبل بما يكفل لهم الحياة الكريمة.
إن ما أدركته القيادة الواعية من ضعف في العلاقة بين التعليم الجامعي وسوق العمل، وأن معظم مخرجات التعليم الجامعي يغلب عليها التخصصات من الأقسام النظرية والإنسانية، وقلة مخرجات التخصصات العلمية التطبيقية كالهندسة والطب والصيدلة والحاسب وتقنية المعلومات، وأن سياسة التعليم الجامعي السائدة تكاد تقصر اهتمامها على البُعد الفني لتنمية الخدمات التعليمية مع إغفال البُعد النوعي وأهمية عنصر رأس المال البشري كعامل أساسي في تحقيق النمو، يمنحها مبرراً منطقياً للبدء في إصلاح نظم التعليم؛ ليتوافق مع معطيات العصر ومتغيراته المتجددة؛ ما يستدعي إجراءات شاملة في طبيعة المناهج الدراسية والتخصصات العلمية المختلفة ومستويات التعليم وأساليب التدريب وطرق التقويم، وهذا ما يقود إلى استشراف القيادة لمستقبل التعليم والاستثمار في مخرجاته البشرية المعرفية حيث التحولات المستقبلية لمعطيات الجامعات السعودية، من خلال التحول من الجمود إلى المرونة والتجديد والترقي. فالمعرفة هي المكون الرئيسي؛ فيها تتضافر جهود عديدة متفاعلة لأدوار أعضائها، من حيث نقل المعرفة بالتدريس وإنتاجها بالبحث العلمي وبرامج الدراسات العليا وتطبيقها في خدمة المجتمع.. وتفاعل تلك الأدوار يساهم في ضمان استمرارية حيوية ونمو مؤسسات التعليم الجامعي مستجيباً للتغيرات والمتغيرات المستقبلية. ومما يؤكد النظرة الثاقبة في التوسع في التعليم الجامعي؛ ليشمل جميع فئات المجتمع، والاستثمار الأفضل في العنصر البشري الذي من أجله تم توفير هذه الإنجازات، أنها هدفت بالتخطيط الواعي الاستراتيجي بعيد المدى إلى توفير التخصصات العلمية التطبيقية كالطب والصيدلة والهندسة والحاسب وتقنية المعلومات واستخداماتها في مجالات الحياة المختلفة ضمن الجامعات الناشئة والحديثة التي تم إنشاؤها مؤخراً في عهد خادم الحرمين الشريفين، الذي يُعتبر رائد التعليم العالي، حيث النقلة النوعية للتعليم الجامعي غير المسبوقة في جميع مجالاته، وأيضاً التحول من التجانس والتشابه إلى التنوع والتباين في برامج التخصصات العلمية، حيث تتم إعادة النظر في صياغة الأهداف الجامعية للأقسام والبرامج العلمية استجابة للتغيرات والحاجات المتنوعة لمتطلبات الأعمال بين فئات المجتمع المختلفة من خلال المراجعة المستمرة للبرامج العلمية وملاءمتها للمتطلبات المهارية المتجددة، مع إحداث التكامل والتعاون بين مؤسسات المجتمع الواد، ولتفادي الهدر والفاقد والازدواجية والنمطية من المخرجات ذات النموذج الواحد والنسخ المتكررة، وكذلك التحول من ثقافة التراكمية والاسترجاعية إلى ثقافة النمو والابتكار والإبداع؛ ذلك أن المعرفة كالكائن الحي، ينمو ويتجدد، ولكن لا يهرم بهرم الإنسان، والسعي إلى التقدم وما يلقاه من دعم مادي ومعنوي من لدن القيادة يستلزم المثابرة على تجديد المحتوى والأدوات والطاقات المؤهلة وإطلاق الملكات الإنسانية والأفكار المبدعة وتطبيقاتها العملية في الواقع المعاش؛ ذلك أن التعليم الجامعي هو المشتل الحقيقي لتفاعل تلك المكونات للتوصل إلى نتاج عناصر مألوفة بمخرجات غير مألوفة، وأيضاً التحول من ثقافة الحد الأدنى إلى ثقافة الجودة؛ حيث إن هناك تزايداً في الاهتمام بقضية الجودة الشاملة في التعليم الجامعي إلى درجة أن كثيراً من المفكرين والمثقفين والمهتمين بشؤون التعليم يطلقون على هذا العصر عصر الجودة الشاملة باعتبارها العنصر الأهم نحو الإصلاح التربوي، وأن التوجه نحو كفاية البرامج التعليمية وفاعلية مخرجاتها يساهم في الارتقاء بمستوى تلك المخجرات من مستوى الحد الأدنى إلى مستوى الجودة للوفاء بمتطلبات المعايير الأكاديمية العالمية ومؤسسات الاعتماد المهني.
ومما يستشرفه التعليم الجامعي بالتوسع في نشره بين مناطق المملكة ومحافظاتها من تسهيل متزايد في الالتحاق بالتعليم الجامعي وتغيير هياكل الدراسة ومداها وتنوعها، مع اتساع مفهوم التقنيات التربوية وتطبيقاتها العملية، وسد الفجوات الفاصلة بين التعليم والعمل، مع ارتفاع في مخرجات التعليم الجامعي كماً وكيفاً، كفيل بأن يؤدي إلى اتساع قاعدة التوظيف وفرص العمل، وارتفاع دخل الفرد والأسرة، وامتصاص نسب عالية من البطالة المتعلمة، الذي سوف يقود عبر مراحل من خطط التنمية إلى تلاشي مكافأة الطالب، ثم تلاشي مجانية التعليم، والدخول في مرحلة الخصخصة الحقيقية، وارتفاع جودة الخدمات التعليمية.
إن إتاحة الفرصة لمخرجات التعليم الثانوي لمواصلة تعليمهم الجامعي وفي التخصصات العلمية ليؤكد على توجهات القيادة الواعية لتحسين مستوى الإنسان السعودي بإكسابه المهارات المطلوبة لسوق العمل من جانب، وتحسين مستوى الدخل والمعيشة له من جانب آخر، وتحقيق الاكتفاء الذاتي من القوى العاملة والموارد البشرية الماهرة والمؤهلة والمدربة لممارسة ذلك داخل محيطه.
إن التوسع في التعليم الجامعي كماً وكيفاً يُعد نقلة نوعية في التعليم السعودي، الذي سوف يوجَّه في استثمار البيئة حسب معطياتها واستمرارية فرص العمل فيها؛ ما يؤكد على الاستثمار المحلي والأجنبي ودخول الشركات الكبرى والمتطلبات المهارية المصاحبة، وهذا يقود إلى التواصل والتبادل العلمي والثقافي العالمي بين الأطراف المشاركة، إضافة إلى الاتجاه نحو توفير البنية التحتية لمجتمع المعرفة؛ ذلك أن نشر التعليم الجامعي يعتبر إحدى الركائز الضرورية في تحقيق مجتمع المعرفة، وأن تعميم التعليم الجامعي وتوفير مؤسساتها بأشكالها ومستوياتها كافة لجميع فئات المجتمع يُعدّ مطلباً أساسياً لبناء قاعدة لتكوين مجتمع المعرفة، وأن ما يؤكده في هذا السياق Drucker على أن من أهم القرارات التي اتخذتها الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية هو نشر التعليم العالي للجنود الأمريكيين العائدين من الحرب؛ ما ساهم في توفير البنية التحتية لمجتمع المعرفة، المتمثلة في عمال المعرفة. ولأن مجتمع المعرفة يتطلب تخريج مهنيين متخصصين Professional في مهن محددة يتطلبها سوق العمل أو المجتمع، وعمال المعرفة سيكونون على درجة عالية من التخصصية المهنية من خلال تجديد معارفهم دورياً، مع تنوع مهاراتهم استجابة للتغيرات المتسارعة في طبيعة الأعمال المهنية التي تنمو يوماً بعد يوم في سوق العمل وحاجات المجتمع، فهذا يقودنا إلى نقلة نوعية في عملية التكامل بين مؤسسات التعليم والتدريب والمؤسسات المهنية الأخرى كالشركات والمصانع والإدارات الحكومية، في توحيد الجهود بروابط الشراكة بينهم لتوحيد أهدافهم للوصول إلى جودة المنتج بقلة في التكاليف وانخفاض في الجهد لتحقيق أهدافها، والمساهمة الفاعلة في تحقيق الاقتصاد المعرفي واستثماراته المتنوعة.
****
* المراجع:
1 - حديث للملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود عن جامعة رابغ للتقنية، التي حملت اسمه فيما بعد.
2 - صحيفة الجزيرة، ندوة الجزيرة، مقابلة مع مدير جامعة الملك سعود (العثمان) الأربعاء 2 جمادى الأولى 1432هـ العدد (14069).
3 - عابدين، سهيلة - القيادة والابتكار (1426هـ) عمان - الأردن.
4 - الغامدي، سعيد محمد (1431هـ) القيادة التحويلية في الأجهزة الأمنية السعودية (أنموذج مقترح) مركز البحوث والدراسات، كلية الملك فهد الأمنية - الرياض.
5 - الهواري، سيد (1999م) القائد التحويلي، مكتبة عين شمس - القاهرة - جمهورية مصر العربية.
6 - Koehler jerry and pankwski, 1997. Transformational Leadership in Government st: Luce press Florida.
7 - Tichy, Noel M, and Devama, Mary anne (1986) The Transformational Leadership. John, wiley and Sons U.S.A
8- Drucker, p (1993) .post-capitalist Society. New York, Harper.
- أستاذ إدارة التعليم العالي المشارك قسم الإدارة التربوية والتخطيط التربوي - كلية التربية