انتقدت «نزاهة» مسبقاً في بعض إجراءاتها التي كانت تدور في حلقات غير مجدية، واليوم سأشيد بما أعلنته عن كشفها لفساد إداري مضمونه توقيع إحدى الإدارات عقوداً لتنفيذ بعض الأعمال والمشاريع، مع مندوب إحدى المؤسسات (غير سعودي)، دون وجود تفويض له من صاحب المؤسسة، وقيام تلك المؤسسة بتنفيذ أعمال إنشائية خاصة ببعض موظفي الإدارة، وتسليم سيارات حكومية لبعض الموظفين بالإدارة، رغم أن طبيعة أعمالهم لا تستدعي حصولهم على هذه السيارات، مع الاستمرار في صرف بدل النقل لهم وهم لا يستحقونه، وتبين للهيئة أيضاً استغلال بعض الموظفين لنفوذهم الوظيفي لمصالح شخصية، بترسية بعض عقود الأعمال على مؤسسات تجارية يملكونها، والأهم من ذلك قيام الهيئة بإحالة أوراق القضية لهيئة الرقابة والتحقيق.
قراءتي للخبر الإعلامي الأخير عن نزاهة تعني لي أن الهيئة أصبحت تسير في الطريق الصحيح، بعد أن اكتسبت بعض الاستقلالية، وتحررت من القيام بدور المراسل الذي يستلم القضية ثم يسلمها مرة أخرى لمرجعية الإدارة للتحقق من الأمر وإجراء ما يلزم، وأصبحت بهذا تملك حق التحقق ورصد وجوه الفساد الإداري ثم إحالته إلى هيئة التحقيق والإدعاء، لكن إحالته للقضاء يظل حلقة مفقودة إلى الآن، على أن تقوم نزاهة بدور المدعي العام ضد الفساد الإداري واستغلال المناصب لأغراض شخصية ومالية، مع الالتزام بأن للمتهم حق الدفاع عن نفسه أمام القاضي.
ما ذكرته الهيئة أعلاه من أوجه للفساد الإداري ليس في حكم النادر، بل أصبح منذ فترة زمنية غير قصيرة من أعراف الإدارة المحلية، وفي حكم المستساغ بين بعض الإداريين، لأن بعض المسئولين يتوهمون بعد اعتلائهم للمناصب أن لهم حرية التصرف في التعامل مع الإدارة على أنها جزء من أملاكهم الخاصة ثم تحويل المؤسسة أو الإدارة إلى مصدر للمنافع لهم وللمقربين منهم، فتصبح الشرهات والسيارات الفارهة هبة يتم توزيعها كل عام لأولئك الذين بمثابة الطبقة الخاصة له في المؤسسة أو الإدارة، وبعد مرور سنوات من توليه تظهر الفئوية في المؤسسة، ومن خلال نظره مقطعية لأصحاب المناصب العليا في المؤسسة تتضح روابط الدم والعلاقات المشتركة بينهم وبين المدير العام، ويعلل ذلك بأن الأقربين أولى بالمعروف!.
يعد هذا التبرير الفاسد من أكثر التعليلات شيوعاً في ثقافة المسلمين، فقد استخدمه الكثير من أجل الاستحواذ على المنافع ثم توزيعها على المقربين منهم، ولم يأت ذلك من فراغ، ولكن من خلال تهيئة شرعية غير صحيحة لهذا الاستحواذ، لهذا تواجه مهمة مكافحة الفساد في المجتمعات المسلمة صعوبات تكاد تكون أقرب للعوائق المستديمة، وربما تستمر تلك المهمة في مرحلة العجز ما لم يحدث انقلاب جذري في المفاهيم.
لذلك لازلت أعتقد أن مهمة «نزاهة» في غاية الصعوبة، فالتركيبة الاجتماعية والإدارية تجعل من مهمتها أشبه بالمشي بين أحراش الشوك في ليلة ظلماء، وذلك خوفاً من السقوط في الهاوية، ثم تحدث الكارثة، لو حدث واصطدمت بأيٍّ كان، لذلك يحرص بعض المدراء أو غيرهم على ربط مصالحه الشخصية في مشاريع المؤسسة أو الإدارة بمصالح أعلى، وذلك كخط حماية قوي من زيارات «نزاهة» المفاجئة.
في الختام، أي أن الاعتماد بشكل رئيسي في أمر الرقابة على المواطن غير سليم، وإن حدث ذلك يجب عدم إعلانه في الإعلام، وذلك من أجل سلامته، وعدم إيذائه في عمله من قبل صاحب النفوذ في المؤسسة أو الإدارة العامة، كما يفترض أن يكون لـ»نزاهة» طرق أخرى أكثر نفاذاً من أجل كشف وجوه الفساد الإداري في أي إدارة أو مؤسسة حكومية!