دوماً كان الملموس نفور المقبلين على الدراسة في الجامعات عن التخصصات العلمية غير الطبية ذات جرس الوجاهة، وكذلك عن التخصصات في العلوم الإنسانية كالتاريخ والجغرافيا واللغة العربية، وأخذت لفترات طويلة جامعاتنا حين تقبل ذوي النسب الأدنى في الثانوية العامة بقسمها الأدبي تزجهم في مثل هذه التخصصات حتى أصبحت ثقافة القبول والقناعة بالتخصص ترفض هذه المجالات، إذ تكوَّنت عنها فكرة، وقناعة سالبتين.. ذلك لأن مراحل التأسيس الأولى لم تكن تعنى بتوجيه مدارك الدارسين نحو قيَمية المجالات المعرفية باختلافها.
بل لعل الأصعب خروجاً من عنق، ومأزق التأسيس المعرفي والبناء لقيمية العلم التجريبي, والتوجه نحو مصادره، ومجالاته بالشكل الفاعل لم يكن في مجال التطبيق في المدارس، لذا كان الأمر ذاته عند التوجه لأقسام كلية العلوم من خريجي الثانوية بقسمها العلمي، تحديدا حيث الفلك، والفيزياء، والكيمياء, وعلوم الأحياء، والرياضيات، ونحو هذه العلوم المهمة التي تصنع فكرا منجزا, وتؤسس لعناصر فاعلة في مجالات تطوير المجتمع البشري، وتقدمه العلمي والمعرفي.
بل إن مخرجات الثانويات في المدارس لم تكن تتنافس على مهارات، ولا قدرات الطلاب في هذا المجال.. حتى أن الجهد يتضاعف من قبل أولياء الأمور في التعليم المنزلي الموازي.
في حين أيضا لم تلتفت مؤسسات المجتمع الأخرى إلى مثل هذا التوجه للعناية بمدارك ومهارات وقدرات الفكر في كائن الأفراد.
وكثيرا ما طرحت أسئلة كثيرة في كتاباتي حول المعلمين أنفسهم الذين يدرسونهم في الصباح فلا يتمكنون، ويدرسونهم في المساء ليجتازوا الاختبارات..!! ويحصدون ما في جيوب الأولياء الكادين نهارا عليها..!
الحلقة كانت محكمة بين المؤسسة التعليمية الأولى والجامعية في هذا الجانب.., ولعلها انفرجت قليلا في السنوات القريبة بعد وضع شروط القياس والتقييم، «مع أن هناك حرجا للفجوة بين واقع التعليم وهذا المخرج» كما أرى, قد تناولته هنا من قبل..
إن المحور لهذا المقال هو ما كان من عدم انتشار لأهمية الثقافة العلمية، وأهميتها، ودور مؤسسات التعليم، والمجتمع بنشرها، ودعمها، وتأسيسها، وجعل المؤسسات التعليمية، ومراكز البحوث، وجهات الإعلام، والاتصال تسعى لجعل العنصر البشري للأجيال النامية في مجرى هذه الثقافة، تعرضه لشمسها، وتغمسه في نهرها.. وبين ما تفرضه آلية، وشكل، وإمكانات المرحلة بما يؤهل لانتهاز كل الفرص، والإمكانات, والوسائل, للتنفيذ.
أذكر أن أول من بعث فكرة هذه الثقافة العلمية على مستوى النشر حين كان هذا المصطلح وليداً في مجتمعنا هي مجلة «الفيصل العلمية» في أعدادها الأولى, هذه التي أنشأها مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات بجهد واع، ومميز، وعنيت هذه المجلة بموضوعات مهمة, وبذلت فيها جهود مضنية، ومع ذلك لم تجد رواجاً في مجتمعنا، مثلها مثل كل الإصدارات الجادة القيمة «عالم الكتب», و»نوادر المخطوطات», و»الفيصل الأدبية»، و»مجلة البحوث والدراسات اللغوية»، ونحوها، نعزو ذلك لعدم اهتمام مجتمعنا بمثل هذه الإصدارات رفيعة المستوى المعرفي, دقيقة التخصص العلمي.., وسيعة التوجه الثقافي والأدبي.. التي تشرق بقوة، وصمت, ولا نتمنى أن تنطفئ أبداً.
الآن يكررهذا الاهتمام مركز الملك فيصل للبحوث، والدراسات الإسلامية، مع مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية الجهة المسؤولة، بإقامة المؤتمر السعودي الدولي خلال الفترة 3-7 هذا الأسبوع الموافق 13-17-4-2013، على نطاق واسع، ومسؤول, ويناسب نهضة التنوير المعرفي في مجتمعنا وهو يستهدف نشر, وتمكين قيمة الثقافة العلمية في المجتمع بشكل فاعل, مستقطبيْن من إذا قال في الموضوع قال.
«يتبع»
عنوان المراسلة: الرياض 11683 **** ص.ب 93855