ماذا يعني أن يصر شعب على الاحتفاظ بلغته الأصلية للتعامل الرسمي الداخلي والخارجي وللتعليم في كل الحقول المعرفية والتطبيقية، وللتعريف المدني بمؤسساته العامة والخاصة، وبمطاعمه ومقاهيه، وبكل شيء من حضانات أطفاله إلى شواهد قبوره؟. ماذا يعني أيضاً أن هذا الشعب نفسه يتخلى طوعاً عن أزيائه التقليدية القديمة (الهدوم) إلا في المناسبات والاحتفالات القومية والشعبية؟
لنطرح السؤال معكوساً.. ماذا يعني أن يحتفظ شعب بأزيائه التقليدية لكامل مواصفات حياته المعيشية والعملية والاحتفالية، لكن يتنازل عن لغته الأصلية التي هي عماد تاريخه الديني والسياسي والاجتماعي، فيستبعدها عن تدريس العلوم والأبحاث العلمية وعن التعاملات الاقتصادية العليا وعن التعريف بواجهاته الاجتماعية، ليستبدل بها لغة أو لغات أجنبية؟.
رغم مرارة السؤال في اللسان وغصته في الحلق، إلا أن الجواب على السؤالين سهل. الشعوب، أو الأمم تختلف في تحديد أولوياتها للتعامل مع الحياة. النوع الوارد في التساؤل الأول من الشعوب حدد أولوياته في اللحاق بالمستقبل للبقاء على قيد الحياة، مع الاحتفاظ بالقديم في الخزن الإستراتيجي لإبقاء الهوية والذاكرة التاريخية ونقلها للأجيال القادمة. النوع الثاني من الشعوب يمارس العكس، حين يحدد أولوياته للبقاء في الماضي، مع محاولة التشعبط كراكب إضافي بمؤخرة المستقبل، مقابل ثمن التبعية الباهظ التكاليف. هذه الحقيقة أو الظاهرة تستحق التأمل.
اليابانيون والصينيون والكوريون والماليزيون والأتراك، وهم يشكلون نصف سكان الأرض على الأقل، وتتمثل فيهم مختلف الانتماءات الدينية المعاصرة، كل هؤلاء تخلوا في حياتهم العملية الإنتاجية اليومية عن هدومهم التقليدية، بينما عضوا على لغاتهم بالنواجذ في مجالات العلوم والمعارف النظرية والتطبيقية وفي التعاملات الرسمية والتعريف بواجهاتهم المدنية والاجتماعية. هذه الشعوب بالذات معروفة عالمياً باعتزازها الفائق بأصولها الحضارية والقومية وبعنايتها الشديدة بتراثها وعاداتها وتقاليدها القديمة. هل هي حين حددت أولوياتها هكذا، تكون قد مارست الانسلاخ عن الأصول والاستسلام للتغريب، أم أن هذه الشعوب مارست الانفتاح على المستقبل بشروط المستقبل، وتمسكت بجوهر الماضي دون زوائده وحواشيه المتناقضة مع ديناميكية الانطلاق إلى الأمام بأقصى سرعة ممكنة.
واقع أن هذه الشعوب حققت نجاحات كبيرة في التنمية والتخطيط للمستقبل ليس له بالتأكيد علاقة سببية بعملية استبدال الأزياء، لكن عملية الاستبدال بحد ذاتها تدل على عقلانية التفكير في التعامل مع متطلبات الزمن بشروطه المستجدة، دون التضحية بالجوهري والثمين الموجود في الماضي.
بالمقابل، عرب الخليج كافة والباكستانيون والأفغان وقسم كبير من عرب مصر وشمال أفريقيا ما زالوا يتمسكون بلباسهم التقليدي ويذهبون به إلى العمل في المستشفى والورشة والمنجرة وإلى البيع والشراء والمساجد، أي بالجلابيب والقفاطين والبرانس وأغطية الرؤوس نفسها التي يحضرون بها الأعراس والحفلات والمناسبات الاجتماعية. لكن هذه الشعوب نفسها لم تظهر الحرص نفسه في المحافظة على لغاتها في مجالات التعليم العالي والبحث العلمي والتدريب التطبيقي، ولا في التعاملات التجارية الاقتصادية العليا، ولا في المخاطبات السياسية الهامة، ولا حتى في مرافق حياتها الاجتماعية مثل المطاعم والفنادق ومراكز التسوق. هل هذه الشعوب التي نحن منها تمارس تطبيقاً مقنعاً وعميقاً للأصالة، أم أنها حددت أولوياتها في تكريس التبعية الحضارية بالاحتفاظ بهدومها القديمة والتخلي عن لغاتها الأصلية في المجالات العلمية من أجل الاستمتاع بالمقاعد الخلفية في مسيرة الشعوب.