كان الدكتور عبدالعزيز قد رسم لنفسه منهجاً، بأن يخرج في كل عام جزءا من هذه السلسلة إلا أنه أخرج ثلاثة وحدد هذا الجزء وفق العام الهجري لأنه التاريخ المعتمد في المملكة من العام الماضي، وقد سرنا معه حتى ص 195 في الحلقة الأولى، مذكرات شهر صفر فقال: وفي سنة من السنوات وأنا في
إنجلترا، يبدو أن الغطاء في الليل انسلح عني وبقيت بدون غطاء مما جعل البرد يؤثر على ظهري، وبدأت عراكاً مجهداً، عندما استيقظت وأحسست بالآلام الشديدة، إذا أردت أن أنقلب إلى الجهة الأخرى، لأتصل بالإخوان وخاصة الأخ أحمد الهوشان، ليحضر إلى شقتي، ويساعدني على النزول عن السرير، وعلى لبس ملابسي لنذهب معاً للطبيب، وكانت كل خطوة أمر بها فيها من الآلام ما الله به عليم. وعبر عن حالته بقوله:
كان أصعب ما علي النزول من الرصيف إلى الأرض والصعود إلى مقعد التاكسي، وكنت أرى كيف أن الناس يقفزون إلى الأرصفة دون عناء، وبسرعة فائقة، وأحاول أن أتذكر أني أمس كنت أقوم بذلك مثلهم وقد أخذ التحسن أسابيع.
وحادثة أخرى مثلها تقريباً، كنا عندما كان الملك فهد رحمه الله في زيارة لإسبانيا في الصيف ذهبنا وزرنا قصر الحمراء، وعندما خرجنا أردت أن أدخل أحد الدكاكين، التي تبيع بعض الكتيبات عن قصر الحمراء وكان هناك درجة واحدة، توصل لآخر الدكان، فخانتني قدمي، وأهويت نحو الأرض، ووضعت يدي اليمنى لتقيني قوة السقطة، وفعلاً تحملت السقطة وقوتها، وقمت ولم أشعر بشيء، ولكني في صبيحة اليوم التالي لم أستطيع أن أرفع يدي، وكأنها مجبسة، والألم شديد، ورفعها أكاد أن أصرخ، فاستعنت عن طريق الهاتف بالأخ فهد بن عبدالله العثمان، ليأتي ويساعدني على لبس ملابسي، وكانت لحظات من الألم لا تنسى وبدأت العلاج وأخذ أسابيع لتعد اليد بذراعها وعضدها إلى أقل من الطبيعي ولكنها حالة أحمد الله عليها.
ونقل من المحاسن والمساوي ص 459 وهو من الكتب التي يقرأها في إجازة الأسبوع: لقد خاطب المهدي امرأة بكلمة غير مرحب بها، إذ قال: ممن العجوز؟ والمرأة لو كان عمرها مئة سنة، يسرها أن تخاطب بغير هذه الكلمة، فلو قال: ممن أنت يا خالة، أو أيها المرأة، لكان أمراً اعتيادياً، ولكن كلمة العجوز فيها رائحة الاستفزاز، وهي في هذه السنة مرفوع عنها القلم، ومع هذا كانت أعصابها تدل على أصالة محتد فجاء السؤال الثاني أكثر استفزازاً وفيه رائحة احتقار طيء قبيلتها.
ومع هذا كله كان الرد مدهشاً للمتبصر فلعل المهدي أدرك أنه يقف على درجة حضارة أوطا من القمة التي تقف عليها هذه السيدة المبجلة، ولهذا سارع لرأب الصدع ووهبها ما رأى أنه يريح صدره (ص77 - 78) هذا التحليل منه لموقف المرأة من المهدي جيد في علم النفس.
ثم كانت منه مناسبة للتحدث عن الناس والمطر؛ فقال: في هذه الصحراء القاحلة، ينظر الناس إلى موسم المطر نظرة جُلىّ يتطلعون إلى مجيئه، ويستغيثون ربهم في إنزاله إذا تأخر، وتكاد أشعارهم في هذا المجال لا تحصى، وقد أعجبني هذا البيت للعويمل: بالعامية:
تحسس ببالي العقربيات سيلة
يفرح بها راعى البكار المهازيل
إنها صورة متقنة صادقة متحركة لهذه البيئة الصحراوية بمن عليها وبما عليها: الإنسان والحيوان والأرض.
- ثم ينتقل بحصاد الكُتب إلى وصف الكبره فقال: الكبر قال كل إنسان من الله عليه، وأوصله في سير حياته إلى سن متقدمة، وقد قيل في هذه الحالة أشعار، منها البيتان التاليان سمعتهما من الأخ العزيز الأستاذ عبدالرحمن بن عبدالعزيز المانع، وهو راوية مكثر، ومجلسه لا يُمل لحسن انتقائه ما يناسب المجلس وما يخزنه من ذخيرة أدبية، تساعد على حسن الاختيار والبيتان شعبيان:
الشوف قرب والركب توجعني
والظاهر إني داخل في الثمانين
وإذا في الثنتين ما يسمعن
وبيني وبين الزول مثل الدخاخين
- وفي صف 88 قال: أرسلت يوم السبت من شهر ربيع الأول من هذا الأسبوع جزءاً من مسودة كتابي: أين بني الجزء الخامس إلى المطابع، وهذا هو آخر جزء من هذه السلسلة.
وذكر اتصالاً في يوم الأربعاء 26 من ربيع الأول من وكيل الوزارة وعبدالعزيز الدخيل من البحرين، يذكران أنه نُقل لهما أن خادم الحرمين الشريفين الملك فهد قال: إن المملكة العربية السعودية مستعدة أن تتحمل أي مبلغ تتأخر إحدى دول الخليج عن دفعه، وبقي التأكد من هذا لأن الجامعة تعاني من مطالبة أصحاب الديون لها بسداد ما عليها، وأن الدول متراخية في الدفع وغير متحمسة لأسباب ذكرت طرفاً منها. (ص 93-94).
ثم دخل في مذكرات شهر ربيع الأول فقال من أبرز الأمور الداخلية الخاصة بطلاب وزارة المعارف إشاعة أن الإجازة الصيفية سوف تمدد أسبوعين أو ثلاثة أو شهراً أو أكثر ولكن الأماني تغشى البصائر وتولج صاحبها إلى فلك واسع من الخيال فيه لذة (97-98) وتأزمت الأمور في البوسنة والهرسك وحرب الصرب لهما بعنف استدعى تدخل الأمم المتحدة (98). ثم تحدث عن الإنارة والعجلة في معالجة الأمور وتوسع في ذلك (ص100-103).
ومن مختاراته لهذا الشهر عن الزمن الذي هو شغل الناس الشاغل تحدثوا عن كل جانب فيه وأعجبه قول شاعر أدلى بدلوه في هذا وهو قول صادق لا ينازعه فيه مُنصف:
إن الجديدين في طول اختلافهما
لا ينقصان ولكن ينقص الناس
وهو يقول دائماً إن الإنسان في حياته مثل الذي يمشي على مبرد المبرد يأكل منه حتى يفنيه، والمبرد باق لم يفن، وأورد مثلاً نجدياً في الذي يؤذي حليماً فيتركه ليعتاد على فعلته، فيقع مع من لا يسامحه فيقتص منه، بمعنى أن الذي قتله ليس من قتله، ولكن من حَلَم عليه حتى تمادى في غيره واستشهد إن صح الخبر أن رجلاً ربت على عجز معاوية، وقارن بين عجز معاوية وعجز أمه، فعامله معاوية بحلمه المتواتر المعهود، فأعاد عمله مع زياد بن أبيه فقطع رأسه وقال الناس إن من قتله حِلْمُ معاوية ثم استشهد بحلم الأحنف في هذا “ومرجعه المحاسن والمساوي”. (105-106) وأوضح بذلك رأياً للحكماء من الحِنّ على خفة الروح وأحد سبلها عدم إكثار المرء من الزيارة وإذا زار فلا يطيل مستشهداً من ما جاء في كتاب الموشى للوشا ص 46 حيث قال:
عليك بإقلال الزيارة إنها
تكون إذا دامت إلى الهجر مسلكا
فإني رأيت القطر يسأم دائماً
ويُسأل بالأيدي إذا هو قسطا (ص107)
ويورد عن أكثم بن صيفي في مختاراته عنه أنه صاحب رأي ومشورة في قومه عند الشدائد والملمات، وينصحهم ولما دب في جسمه الوهن في آخر عمره، لم يغالط نفسه ولا خدع قومه ولا كابروا أخفى ما قد يكون أغلبه ظاهراً للناس فقال بشجاعة متناهية إنه ضعيف الجسم والرأي عندما جاؤوا يستشيرونه ولكن الحكمة لم تفارقه إذ نصحهم ولم يعطهم رأيا، فيما دهمهم من يوم الطلاب فقال: إن وهن الكبر قد فشا في بدني، وليس معي من حدة الذهن ما ابتدئ به الرأي، ولكن اجتمعوا وقولوا فإني إذا مر بي الصواب عرفته أورد هذا من محاضرات الأدباء (120) ثم أورد كلمات عامية أعجبته.
ثم دخل شهر ربيع الآخر وكان من افتتاحه به خبر وصول وفد يمني إلى جدة على مستوى خبراء وسوف يلتقي بمثيله من الخبراء السعوديين لبحث الأمور المحددة تمهيداً للاجتماع العام لمجلس التنسيق السعودي اليماني العام (ص113-114). وكتابه هذا بما فيه هو الثاني لهذا الشهر.
وقد تقدم في هذا أحد الأجلاء بمشروع عن التغذية بوزارة المعارف فبحث ولم يوافق عليه (ص119).
ومن مذكرات شهر ربيع الثاني فقد بدأه بمشاركاته في الاجتماعات في لجنة الشورى وفي كل جلسة يقطعون شوطاً أما اليمن فلا تزال مباحثات الحدود مستمرة والاجتماعات متتالية (ص 133-134).
وسمع قصة يوم 25-10-1408هـ عصراً في بيت صالح الشملان قال: بعد موقعة الصريف قال ابن رشيد إن عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل صاحب حق يطالب به، وأمراء القصيم لهم أعذارهم ويدافعون عن بلادهم أما أكال السمك هذا يعني ابن صباح فسوف أذبحه داخل بيته وأطعمه للسمك، فخاف ابن صباح غاية الخوف فقال له عبدالعزيز الحسن: أنا أستطيع أن أجعله لا يفي بوعده، ويرضى إذا أعطيتني سلطة على خزائنك، فوافقه، فاشترى عشر نياق عمانية، وسبعاً من خيار الخيل وعطوراً وملابس وزرياً وأشياء ثمينة من الهدايا التي تبهر العقل.
أخذ كل هذه الهدايا لابن رشيد فانبهر منها وانبهر من حوله، ورغم أنه أدرك أن البادرة لم تكن من ابن صباح رغم الخطاب الذي جاء مع الهدايا والذين أملاه عبدالعزيز بنفسه، ووقعه ابن صباح وختمه وكان فيه من التودد والتأسف الشيء الكثير، ورغم أنه أخبر عبدالعزيز بما يعتقده من أن كل هذا من عبدالعزيز الحسن، فقد رضي عن ابن صباح، وألحق سليمان البسام راوي الحكاية بما نصّه: إن ابن صباح سأل عن عبدالعزيز المتعب هل هو يعفو أو يذبح؟
فلما قيل له أنه لا يعفو قال: هذا لا يدوم ملكه (141-142).
وأتركك أيها القارئ مع هذا الكتاب، وما فيه من مختارات ذات مدلول خاص مع الفائدة والمتعة.
mshuwaier@hotmail.com