الأخ عبد الواحد الحميد, كاتب قدير, وليس بحاجة إلى شهادة, وليس ممن يدان في مقاصده -وهم كثر- فإن له الكثير من الأفكار الإيجابية البناءة المفيدة, ولكن لكل عالم وجواد كبوة وهفوة, وهفوة أخينا مقالته اليوم 5-6-1434 في الجزيرة عن اللغة الإنجليزية, التي ترسخ في أذهان العوام أن من يدعو لها تنويري متطور!
وبحسن نية منه, غاب عن باله, أن اللغة الإنجليزية لم تعد اليوم لغة ثقافة, وإنما هي لغة سياسة غير محايدة ولسان استعمار يخدمه على عدة محاور. وزيت الخروع يشرب للإمساك لا للإسهال.
فلكل شيء أوانه ومكانه.
والاهتمام البالغ المهرول بالإنجليزية, والارتماء في أحضانها وما تمثله, والتباهي بها جاء على حساب رعايتنا وعنايتنا بأمنا أو ابنتنا, أو لساننا اللغة العربية, التي بدأت بجلاء تشكو من الغربة في تربتها وبيتها! ولقد أعطيت الإنجليزية بتبذير, أكثر بكثير مما يرجى منها, ومما تستحق, وما تعنيه وتسديه, فحتى «توفلها»! هيمن, وبقي غصة وعائقا حتى لمن لا يحتاجه,! كدراسات القرآن وعلومه! مثلا وغيرها.
نعم..
تعلمها وغيرها مفيد, لكن ليس على النحو التعميمي, وليس على حساب أولويات المفيدات الأهم, وتجاهل السلبيات التي تطغى.
و»من تعلم لغة قوم أمن مكرهم»تؤخذ في حدودها ومرادها.
الفائدة توجد حتى في تعلم الصينية والفرنسية والأسبانية والعبرية والأمازيغية والكردية والتركية-غير الأردقانية-.
لكن ليس على حساب الأهم والأوجب, ولو أعجبك كثرة الخبيث, ولقد تجاوزت الإنجليزية الحدود بكثير, فأصبحت خطرا علينا وعلى هويتنا ولغتنا العربية التي ألقيناها في اليم مكتوفة! وصارت مهملة مضيعة, ولولا التصحيح من المصححين, لشاهدت قادة فكر, وكتاب رأي يخوضون مع الخائضين في اللغة العربية على نحو مسف مزر مخجل.
وأضحى الإعلام المسموع والمرئي والمقروء, والمحاضرات, والخطب, والندوات, وبخاصة الشعرية الحداثية!, والتقارير, والمراسلات حتى الرسمية وشبه الرسمية, والإرشادات والإعلانات, في انحطاط لغوي وهبوط مشوه لعروسنا الحسناء: اللغة العربية المبدعة.
وأهلها سادرون, كل منهم أو جلهم -بلا وعي- ثاني عطفه, لاهث وراء «التشخيص»! بالإنجليزية, وطلاقة ألسنة أولادهم بها في زهو طاووسي, وترديد ببغائي ساذج, غارق في أميته الثقافية والوطنية والعروبية والإسلامية.
ويظهر هذا بجلاء أكثر في المدارس الأهلية والعالمية, حتى أصابت الجرأة «مفكرا» باقتراح أن يكون التدريس لكل العلوم والمراحل باللغة الإنجليزية!!! وطبعا لم يستبعد هدفه السياسي والذاتي المنغلق على حب النفس.
أما تدريس الإنجليزية في الرابع الابتدائي عام 1929 فدليل جهل وتخلف, لا نود العودة إليهما, وليس مفخرة! وفتش عن الأسباب والمؤثرات التي لا تسر, ولعلها غلطة شاطر استدركت, والحمد لله.
ومعظم -إن لم يكن كل- العلماء والأساتذة الباحثين الميدانيين المختصين يرون عدم مزاحمة لغة أخرى للغة الأم في مراحل التأسيس, والتركيز المعمق لوظيفة اللغة في امتياز التحصيل الأتم, في التعليم العام.
ومن هؤلاء أستاذ الجامعة, ودكتور الطب زهير السباعي, الذي عايش لسنوات التجربة مع تلاميذه, وأعد استبانات ودراسات ميدانية, فوجد النتيجة منذرة محذرة من مزاحمة لغة أخرى للغة الأم العربية المعقّة المعاقة -بفعل الغير- رغم مواهبها ونبوغها وثرائها الذي لا يجارى ولا يبارى.
وما نحتاجه في غيرها فليترجم اليها فتزدوج الفوائد.
وتبين له أن الفهم تنقص نسبته لدى الطالب المزاحمة لغته بلغة أخرى.
وأما أهمية اللغات الأخرى «الأجنبية» فكلمة حق يراد بها باطل -من غيرك- في كثير من الأحيان, وكثير جدا من كيفيات ودوافع الحرص عليها, ولا إنكار للأهمية, ولكن مع معرفة الحدود والمقادير, والتوقيت.
والسلبيات والإيجابيات, بموازين واعية غير منجرفة..
الجائع الطاوي لا يعطى مثلجات «آيسكريم» مع وجود بُر وتمر.
وقد عاتبك بعض الأصدقاء عتابا شديدا -ومعهم حق, والحمد لله أننا بخير-والشدة جاءت من تمكن إحساسهم بالبلوى والمصيبة بل والكارثة, التي تتأخر نتائجها الى ما بعد انتشار الوباء والمرض, ولأنهم يحسون بالألم, فهم لا يرون التهور في وضع أيدٍ وعقول أولادهم ووطنهم في قيود لغة من احترف الاستعمار والابتزاز.
لكنهم أو منهم من ألحقوا أولادهم بمدارس خاصة تعلم الإنجليزية, وهذا لا يعني أنهم فعلوا ذلك من أجل الإنجليزية! ولربما لعديد أسباب أخرى, وللخيال هنا مجال.
صاحبك الذي ألحق ابنه بمدرسة تدرس الإنجليزية, وهو لا يرى ذلك, يذكّر بحوار جرى بين جمال عبد الناصر والشيخ محمد الغزالي, حول حجاب المرأة في مصر ملخصه المضغوط.
قال جمال: لا أستطيع أن أفرض على المصريين الحجاب, حجّب بناتك أنت, قال الغزالي: لا أريد قسرهن وإلزامهن وحدهن, مما قد يؤدي إلى ما هو أسوأ في تربيتهن ومجتمعهن.
فأعزلهن. أو كما قالا.
وصاحبك لم يرد الهروب من الإنجليزية, إلى مدارس قد يرى بها ما لا يحتمل من أمور أخرى.
ولكنه ضد تدريسهم لغة دخيلة منطوية على ما لا نريده منها.
اللغة الإنجليزية لغة رسمية ووحيدة لبعض مستعمرات الغرب, ومع هذا فهي بلدان متخلفة جدا, ولم تنفعها لغتها الإنجليزية, وكل مواطنيها بلابل في الإنجليزية!! «يا بختهم!» اللغة إناء ووعاء, وليست التي تطور, وإنما العلوم التطبيقية والجدّية, والصدق, والطموح, والتشجيع بأي لغة كانت, وبخاصة اللغة الأم للبلد.
الصينية أو الألمانية أو الأسبانية, أو اليابانية أو الروسية, أو اللغة العربية العريقة الموهوبة المتجددة بمترادفاتها واشتقاقاتها, هذا إذا لقيت التفاتة واهتماما وغيرة وعناية ورعاية «من كفيلها».
ومن رغب في لغة أخرى فالباب مفتوح له في غير التعليم الرسمي, لكن لا يجرنا قسرا معه, أعطونا ما تتحدثون عنه كثيرا: الحرية والديمقراطية.! ولندع الانسياق وراء بريق التطوير والازدهار الوهمي كالشهادات الوهمية, التي لا تسمن ولا تغني من جوع, لأنها الضريع, بل بدلا من التقدم, تؤدي إلى النكوص والرجوع.
علي العيسى