د.ميساء الخواجا:
شاعرتان من بنات هذا الوطن كتبتا أوبريت «قبلة النور» : مستورة الأحمدي ـ يرحمها الله ـ ومعتزة، وعندما نرى ذلك فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو هل أثر ذلك على تماسك الأوبريت وعلى فنيته؟ لكن قراءة الأوبريت تكشف عن اتفاق غريب بين الشاعرتين حتى يشعر القارئ أن النص لشاعرة واحدة لا لشاعرتين، وهذا أمر فيه صعوبة، لكن الشاعرة معتزة استطاعت أن تتوافق مع أسلوب مستورة الأحمدي وأن تدخل روح الأوبريت وأفكاره فجاء العمل متكاملا معبراً عن روح وطنية واضحة وصادقة ومتوحدة عند الشاعرتين (وهذا أمر في غاية الصعوبة).
عندما نبدأ من عنوان الأوبريت نجد أنه عنوان جميل مليء بالإيحاءات الجميلة، فالقبلة تشير منذ البداية إلى المكانة التي يتمتع بها هذا الوطن فهو قبلة المسلمين ومهبط الوحي، إليه تتجه أنظار وقلوب المسلمين في كل بقاع العالم.
واختيار كلمة «النور» جميل ومعبر فالإسلام نور وهداية للبشر جميعاً، والنور يمكن أن يكون أيضا نور الحضارة والتاريخ العريق لهذه الأرض، وهو أيضا نور النهضة والعلم، والمملكة هي قبلة النور الذي تهوي إليه أفئدة المسلمين في كل مكان.
لقد قام الأوبريت على أفكار مهمة وأساسية تعتبر من ثوابت هذا الوطن وقضاياه المهمة، ومن ذلك :
الولاء للوطن:
اختارت الشاعرة في البداية الحديث عن الأمان الذي تعيشه بلادنا، وهذه نعمة يحسدنا عليها الكثيرون، والأمان في ظل حكم قيادتنا الرشيدة مع التمسك بنبراس الله وهدي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم انطلقت إلى الحديث عن أهمية الولاء للوطن، وأن الاختلاف ممكن شرط ألا يمس بالثوابت الوطنية، وهذا يتبنى فكر خادم الحرمين الشريفين ـ يحفظه الله ـ حول أهمية الحوار الوطني، الحوار الذي يعني أن الاتفاق في النهاية يبقى قائماً وهو أمر لا يمكن التنازل عنه، حب الوطن والولاء لقادته أمران أساسيان في تحقيق أمان الوطن وازدهاره.
هنا تأتي لوحة الملك عبد الله لتقول بطريقة غير مباشرة إن حب قادة هذا الوطن مغروس فينا تدعمه سمات قائده وراعي ودافع نهضته وتطوره.
في هذه اللوحة تجديد لأهمية الولاء وذكر لمناقب خادم الحرمين الشريفين حفظه الله وصفاته، بلغة جميلة سهله يمكن أن تصل إلى كل المستمعين على اختلاف توجهاتهم وثقافتهم : الرحمة والصرامة في الحق، مساندة الجار والدفاع عنه، الخير والحكمة، الأعمال المهمة والمؤثرة كتوسعة الحرمين الشريفين، رعاية الشعب والاهتمام بشؤونه، وغيرها من صفات القائد الحكيم الذي يعرف كيف يقود شعبه ويكون له دوره ومكانته محليا وعالميا.
وحدة الوطن:
الأوبريت كله قائم على هذه الفكرة الجوهرية والمهمة، وكل لوحة فيه تؤكد أهمية هذه الوحدة وأنها شيء أساسي لا يمكن التنازل عنه بأي حال، الوحدة بين أبنائه جميعا بشكل أساسي، والتوحد خلف قائده، واختارت الشاعرة مستورة صورة جميلة لتعبر عن هذه الوحدة:
(شعب اتّحد مثل الجسد وأنت دمّه)
واستفادت من توجهات الإسلام وتركيزه على أهمية الاتحاد، كما أن الجسد لا يكون دون دماء تجري في عروقه، وبدون ذلك يكون جسدا ميتا باردا لا حياة فيه، الجسد والدم متكاملان متحدان لا يكون أحدهما دون الآخر، وفي هذا تأكيد قوي على عمق الوحدة والتكامل بين الشعب وقائده، في ظل راية التوحيد وفي إطار نسيجه المتماسك.
لقد أكدت الشاعرتان فكرة الوحدة في كل مقاطع الأوبريت وأجزائه وبلسان مختلف أفراده وفئاته، وكررت فكرة الجسد الواحد، وهي سمة تميز هذا الوطن:
( ويا وطن كل الجهات بوحدتك مضرب مثال
يا جسد واحد عظيم القدر يا سمح الخصال
كلما زدنا تلاحمنا نزيد العز هيبة )
ففي الوحدة قوة الوطن وازدهاره وتقدمه، وهذا ما أثبته التاريخ ونراه في الحاضر والمستقبل.
المرأة:
كتب الأوبريت امرأتان شاعرتان، وهذا يؤكد منذ البداية حضور دور المرأة، ومن هنا لم يفتهما التأكيد على أهمية هذا الدور، وتاريخ المملكة يشهد بذلك، وكان عرض أهمية دور المرأة متسلسلا وجميلا، فقد بدأت الشاعرة بمقدمة تمهيدية تشير إلى الدور التاريخي للأميرة نورة رحمها الله، ثم وصلت إلى التأكيد على أهمية دور المرأة وأحسنت الاستفادة من مواقف خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - وعرض كلمته حول مشاركة المرأة في عضوية مجلس الشورى، وهكذا يسند القول الفعل.
بعد ذلك تعقب بتأكيد أهمية رأي المرأة وحكمتها، واستفادت من هدي الإسلام (وأمرهم شورى بينهم)، وأن الإسلام لم ينصّ على رجل دون امرأة، وأن خادم الحرمين الشريفين ـ حفظه الله- قد طبق في أقواله وأفعاله شرع الله وسنة رسوله، ومن ثم تنتهي بوعد قدمته باسمها وباسم بنات جنسها بصدق النصيحة والرأي المخلص المعتدل.
هنا يحضر صوتان «ابن الوطن» و «بنت الوطن» ويتساويان في الحب والبذل، وهذا تأكيد على رؤية خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - في إعطاء المرأة دورها وحقها وحفظ مكانتها، وأن الوطن لا يبنى دون أبنائه جميعا رجالا ونساء، والعلم والدين أساس نهضتهما، وتستفيد من اسم الأميرة نورة رحمها الله ووقوفها إلى جانب أخيها الملك المؤسس ما يعمق فكرة الوحدة التي سبقت الإشارة إليها، وهنا أيضا تؤكد فكرة أن المرأة عقل وقلب وأنها يمكن أن تكون سنداً له دور قوي ومؤثر في بناء هذا الوطن.
المرأة أخت، وناصحة، وهي أيضا أم لا يمكن إنكار دورها وقد أفردت لها لوحة كاملة لتؤكد أهمية هذا الدور وأنه لا يمكن تجاهله، وفي ذلك توظيف ذكي لمقولة خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - حين قال: «المرأة هي أمي وأختي وابنتي»..
الفتن:
في طرح هذا الموضوع الخطير وإفراد لوحة كاملة له، تأكيد على خطر الفتنة، وأهمية الوحدة، فالفتنة شر وهي خادعة لمن يقع في شباكها، هي جهل وظلام، وكان جميلا الحديث على لسان الوطن، السعودية أم تنادي أبناءها، فالأم لا ترجو الضرر لأبنائها، وينبغي أخذ نصيحتها بعين الاعتبار، وهي تعامل أبناءها كلهم بطريقة واحدة وهم في عينها سواسية لا فرق بينهم، وإذا نادت عليهم جميعا أن يلبوا نداءها.
الأم ترى الغد في أبنائها وهم جميعاً لن يخيبوا ظنها وأملها فيهم، هكذا يزدهر الوطن حين يتحد أبناؤه ويبتعدوا عن الوقوع في شرك المضللين وتحميهم أمهم من خطر الفتنة وشرها وخداعها، وقد اتكأت الشاعرة في هذه اللوحة على الأحاديث النبوية الشريفة عن الفتن، وكتبت بأسلوب يجمع بين المباشرة والرمزية في إطار فني جميل كونها تخاطب شريحة الشباب وهي الأكبر في المجتمع السعودي والأكثر تأثراً وتأثيراً:
الفتن جهل وظلام
افتراق وانقـسام
إنزع العتمة وشوف
لا يضللك الغمام
لم ينسَ الأوبريت الأمير سلطان بن عبدالعزيز والأمير نايف بن عبدالعزيز - رحمهما الله - فقدم وقفة وفاء لهما، وكتبت معتزة هذه اللوحة المؤثرة بمختلف أبعادها الإنسانية والوطنية واستعرضت بعض مآثرهما وأكدت بقاءهما في القلوب، كما قدم الأوبريت أيضا وقفة ولاء لولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير سلمان حفظه الله، فالوطن باق بقادته، وهو عضيد «الوالد» القائد وسنده، مع إشارة مهمة إلى دوره في مساندة أخيه وحماية الوطن من أي فكر ضال يهدد أمن هذا الوطن وبقاءه.
ختام الأوبريت جاء بالعرضة التي تؤكد دور المملكة العربية السعودية وأهميتها في المنطقة، مع تجديد الولاء لقائده خادم الحرمين الشريفين حفظه الله، وتجديد العهد والأمل في غـد مشرق، وابتسامة القائد هي ابتسامة الغد وفرح المستقبل.
طرح الأوبريت أفكارا مهمة وحيوية، لكنه لم يهمل جمال الأسلوب والصور، فهو مليء بصور جميلة فنية تعزز الأفكار التي يطرحها، ومنذ البداية يمكن أن نقف عند الاستفادة من النخلة رمز الوطن واستثمار النص القرآني في سورة مريم مع تحويل جميل في الصورة:
(ونخلتك لا هزّيتيها / تثمر من أجيال الوطن)
ثمار النخلة / الوطن هم أبناؤه، وفي ذلك إيحاء باستمرار الوعد في الأجيال القادمة، فهي نخلة مثمرة دوما لا تكفّ عن طرح الثمر، والوعد بالمستقبل مستمر وغني.
جمالية اللغة حاضرة أيضا في كل أجزاء الأوبريت، كالتقابل الذي أوجدته الشاعرة مستورة من خلال التلاعب في اللفظ:
(لا شريك لربنا في قلوبنا / وفي ولانا ما لكم فينا شريك)
أيضا بعث الحياة في القلم وحيرته في صفات خادم الحرمين الشريفين حفظه الله، في صورة جميلة تؤكد أن دافع الكتابة ليس الخوف بقدر ما هو الحب، كما ترسم هنا معتزة:
القلم من رهبته في الكفّ حار
مالمهابة سطر الأبيات انتفض
وتصف الملك عبدالله بوصف غاية في الجمال والإدهاش (وجه النهار):
وش بيكتب فيك يا وجه النهار
وإنت فعلك في سما العليا عرض
حتى تختم هذا المقطع بلمحة رائعة:
اسم (عبدالله) وللمجد اختصار
ويا عساه المجد يوفي بالغرض
وتحضر هذه الجمالية أيضا في صور عديدة للشاعرة مستورة تتناثر في أرجاء النص مثل:
(يمّه وأنا شمس تنفس بها فجر )
أمشي على أرضك كأني على صدر
غيمة توضا الصبح من طهر ماه
كل ما تحرث ثراك الشمس ينبت لك رجال
ويخيط صبري ما انفتق من جراحي
وغيرها من صور تحضر في هذا الأوبريت بقوة وتعطيه جماله وتأثيره، كهذه اللمحة الجميلة في وصف العلاقة التكاملية بين الرجل وأخته المرأة في مسيرة بناء هذا الوطن وتنميته ورقيه:
(تبني معه.. ترقىَ معه / تبسط لدربه فيّها)
لفتة جميلة أخرى في نداء خادم الحرمين الشريفين حفظه الله «يا أبوي»:
يا أبوي وسيدي
يا عسى نرد الجميل
هذا قلبي في يدي
لقدرك العالي قليل
وهو التقاط ذكي للشاعرة معتزة ينمّ عن تمكنها من أدواتها الفنية في مخاطبة الوالد المليك الإنسان بلغة غاية في الحميمية والصدق والحب الفطري الذي يحكم علاقة الأبناء بوالدهم (وقد تكرر وصفه يحفظه الله بالوالد أكثر من مرة)، وفي ذلك تأكيد على علاقة الأبوة الحانية التي تربط القائد بشعبه، والتي أكدها القائد نفسه في أكثر من مناسبة وفي خطاباته وكلماته.
هو الأب الذي نقبل منه ما يفعل، ندرك حكمته وصبره، وأنه في النهاية لا يفعل إلا ما هو في صالح أبنائه، وفيه أيضا تأكيد على علاقة الحب التي لا يمكن تجاهلها أو التشكيك فيها، وهي علاقة قوية لا يمكن أن تنفصم بسهولة، ومستمرة دوماً.
هكذا تناول الأوبريت قضايا مهمة تهمّ الوطن في الوحدة والمرأة وتأكيد الولاء وحب أبناء الوطن بكل فئاته لقادته، في لوحات متنوعة وشاملة، وفي لغة جميلة ومؤثرة، لا تمنع سهولتها جمالها.
وتؤكد أن المرأة المبدعة توازي الرجل في إبداعه، وتستحق الفرصة التي أعطيت لها في كتابة أوبريت مهرجان من أهم المهرجانات التي رسخت مكانتها محليا وعالميا وهو مهرجان الجنادرية الذي رعاه خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - من بداياته، وترسّخت فيه صورة المملكة ثقافةً وفناً وإبداعاً.
- قسم اللغة العربية - جامعة الملك سعود