لنلحق بهم.. آل جونز لا يمكن أن يسبقونا!.. هلمّوا نتخطّاهم ونطاولهم الأعناق! إنه سباق حتى الموت، فإما نحن وإما هم!..
هل تعرفون من هم آل جونز هؤلاء؟.. لا نعرف الكثير عنهم، فهذا الاسم ظهر في أوائل القرن العشرين وأول ذِكرٍ لهم كان للكاتب الأمريكي الساخر الشهير مارك توين في مقالة كتبها عام 1901م، وأشارت لهم زاوية كاريكاتير ظهرت عام 1913م في الصحف الأمريكية. هذه العبارة -أي التفوق على آل جونز- صار منهج حياة الكثير من الناس.
حان الوقت الآن أن نشرح معناها: إن عبارة التساوي أو التفوق على آل جونز تعني أن غيري من الناس لن يتفوق عليّ ولن يسبقني، وأن عليّ أن أبذل الجهد الكثيف والمال الكثير لأتساوى معهم بل وأن أسبقهم. في ماذا يا ترى؟ فيمَ هذا السباق؟ في طاعة الله؟ في العلم والتعليم؟ في أعمال الخير؟ لا.. في الاستهلاكية.
إن الاستهلاكية هي أبرز مشاهد الثقافة الأمريكية، ونعني بالاستهلاكية تلك الظاهرة الدميمة حيث تكون السِّلع هدفاً يُطلَب لذاته لا لأنه يقضي حاجة، فيشتري الأمريكي السلعة للتفاخر بها ثم يشتري سلعة مشابهة ظهرت بعدها، وهكذا يأخذ يشتري ويشتري وينفق أمواله المتعوب عليها في بضائع لا يحتاجها. هذه الاستهلاكية صارت ليست فقط ظاهرة في المجتمع الأمريكي بل دِيناً، فالمادة هي الإله هناك والسلع والبضائع من تجلّيات هذا المعبود، ولنأخذ مثالاً، فالسيارة هدفها أن تنقل الشخص من النقطة (أ) إلى النقطة (ب)، فلا يهم فيها إلا أنها تنقل بكفاءة وراحة وما غير هذا فهو فضل وزيادة، أما في المجتمع الاستهلاكي فالنقل ليس هو الهدف من شراء السيارة وإنما التفاخر هو القصد المبطن، فتكون من أبرز الأسئلة التي يسألها المشتري: ما لون السيارة؟ ما هي السنة التي صُنِعَت فيها؟ ما خصائصها الإضافية؟ هل بها فتحة سقف؟ ما تسارعها؟ جلد أم مخمل؟ وهَلُمَّ جَرَّاً، والكثير يدفع الأموال الطائلة في سبيل هذه المظاهر غير الضرورية.
هل أَخَذَ هذا الكلام يبدو مألوفاً للقارئ الكريم؟ نعم، ما ذكرته ليس محصوراً على المجتمع الأمريكي بل هو عندنا أيضاً للأسف، ولم تقتصر الاستهلاكية على السيارات بل على كل شيء ممكن، ومِن أحدث أوجه الاستهلاكية التي استفحلت في مجتمعنا هي صرعة الهواتف المتنقلة، فهذه صارت هوساً الآن، ونستطيع أن ندرك مدى استشراء هذا الداء لدينا من مجرد مراقبتنا للعادات الشرائية لنا ولمن حولنا، فالشخص الذي يملك جوالاً حديثاً قوياً متطوراً يزهد فيه فور سماعه أن النوع الجديد سيظهر قريباً، فيأخذ يُقلِّب هاتفه بازدراء، رغم أن الجديد لا يختلف عن القديم إلا في شكليات بسيطة مثل تحسين الكاميرا أو زيادة طفيفة في الذاكرة، وهي أشياء تستطيع الشركات وضعها من البداية إلا أنها تؤخرها عمداً ليطرحوا جوالاً جديداً في الأسواق كل سنتين أو ثلاث لامتصاص أموال المجتمع الاستهلاكي.
يذهب صاحبنا ويشتري الجوال الجديد ويرمي «القديم» في مقبرة الجوالات في منزله ويبدأ ينتظر صدور النسخة الأحدث، وهكذا تدور عجلات الحياة الاستهلاكية حاملةً أموالاً ضائعة لن تعود ونفوساً تائهة لن ترضى حتى تتفوق على آل جونز في الكماليات والسلع غير ذات الحاجة، ولن يملأ فمك يا ابن آدم إلا التراب.
Twitter: @i_alammar