فى يومين من الأسبوع الماضي توالى حدثان صحيان في غاية الأهمية، فالأول هو افتتاح مستشفى الأمير محمد بن عبدالعزيز مساء يوم الأحد الموافق 18- 6 - 1434هـ، والثاني اعتماد مجلس الوزراء لقرار اللجنة الوزارية
للتنظيم الإداري بإنشاء المركز الوطني لمكافحة الأمراض في جلسة يوم الاثنين الموافق 19- 6- 1434هـ. أما لماذا التهنئة لكلا الوزيرين، فلأن كل منهما بذل جهودا حثيثة توجت بإنشاء المستشفى واعتماد المركز.
معالي الدكتور حمد المانع كان يعرف حاجة منطقة شرق الرياض الكثيفة السكان إلى مستشفى رئيسي منذ أن كان مديرا عاما للشؤون الصحية بمنطقة الرياض، وكان يعرف بوجود أرض تابعة لوزارة التربية والتعليم على شارع الإمام أحمد بن حنبل فسعى بعد توليه وزارة الصحة إلى مبادلتها بأرض لوزارة الصحة في مكان آخر بالرياض، ثم مضى في جهوده لاعتماد إنشاء المستشفى بسعة 300 سرير ومن ثم ترسية المشروع والبدء بتنفيذه، وعمل معالي الدكتور عبدالله الربيعة بعد توليه وزارة الصحة على رفع سعته السريرية إلى 500 سرير وتجهيزه بأحدث وأرقى التجهيزات، حتى اكتمل صرحاً طبياً شامخاً في موقع إستراتيجي يعد من أشد أحياء الرياض اكتظاظا بالسكان، ومن شأنه أن يخفف الضغط على مستشفيات وزارة الصحة الأخرى، ولذلك فإن هذا المستشفى ليس مجرد رقم يضاف إلى أعداد المستشفيات، بل هو مشروع يفتخر به.
جاء افتتاح المستشفى متزامناً مع البدء في تنفيذ مشاريع المدن الصحية الخمس الجديدة والعديد من المستشفيات الجديدة الأخرى التي أعلن عنها وزير الصحة، وقبل ذلك تحويل مستشفى (الشميسي) المشهور إلى مدينة طبية باسم مدينة الملك سعود الطبية عام 1433هـ- نتيجة للتوسعات والإنشاءات الحديثة التي توالت على المستشفى - ولا تزال- منذ أكثر من عشر سنوات، وقبل ذلك إنشاء وتشغيل مدينة الملك فهد الطبية (افتتحت عام 1425هـ) مع هذه المشاريع الضخمة تدخل وزارة الصحة بوابة التميز في الخدمات العلاجية لتسابق الجهات الصحية الأخرى ذات الإمكانات والموارد الأكبر - حتى الآن، وإن حصلت الخدمات الوقائية والرعاية الصحية الأولية أيضا على مثل هذا الاهتمام، فيمكننا أن نتفاءل بمستقبل زاهر للخدمات الصحية، وفى مثل هذه المناسبات يثير بعضهم سؤالين لا يمكن المرور عليهما مر الكرام.
السؤال الأول: كيف يتسنى لنا أن نشغل هذا العدد الكبير من المستشفيات والمراكز الصحية ونحن نواجه شحا في الموارد البشرية المتخصصة ومنافسة شديدة في أسواق العالم، في حين أن أعداد القوى الصحية الوطنية المتخصصة لا تزال تحت الخط الأحمر؟ وقد أجابت وزارة التعليم العالي عن هذا السؤال بافتتاح العشرات من كليات الطب وطب الأسنان والصيدلة والعلوم الطبية التطبيقية منذ أقل من عشر سنوات وغطت جميع مناطق المملكة، ومع ذلك فإن هذه قد لا تكون كافية لسد احتياج التوسع الكبير في إنشاء المرافق الصحية الذى تزمع الجهات الصحية الأخرى (القطاع العسكري والجامعي والخاص) المضي فيه بالإضافة لوزارة الصحة، ولعل جهود هذه الوزارة تتضافر مع جهود وزارة الصحة لإنشاء كليات طبية بالمدن الصحية - وخاصة في المناطق ذات الكثافة السكانية- للاستفادة من إمكانيات التدريب بها والاستشاريين ذوي الكفاءة العالية، وأقول تتضافر الجهود، كيلا يتكرر الخطأ الذي مورس بحق كلية الطب في مدينة الملك فهد الطبية التي تجاهلتها وزارة التعليم العالي وأغلقتها وزارة الصحة بالضبة والمفتاح منذ عام 1430هـ ونقلت مسؤولية طلابها المسجلين إلى جامعة الملك سعود للعلوم الصحية التابعة للحرس الوطني.
والسؤال الثاني:
على أي صفة سيتم تشغيل وإدارة هذه المستشفيات الحديثة والمدن الطبية؟ وقد أجاب عن هذا السؤال معالي الدكتور عبدالله الربيعة في أثناء حوار مع الأستاذ طلعت حافظ في برنامج (بوضوح) مساء يوم 23 جمادى الآخرة 1434هـ حين ذكر أن التوجه هو نحو التشغيل الذاتي لجميع المستشفيات، وهي تجربة ناجحة بدأها الحرس الوطني عام 1418هـ، ثم أخذت بها وزارة الصحة تدريجيا منذ الحقبة التي تولى فيها معالي الدكتور أسامة شبكشي وزارة الصحة، ولا يحتاج معالي الدكتور الربيعة إلى نصائح في هذا الموضوع، فهو يتكئ على خبرة طويلة. إلا أنه يجب القول: إن التشغيل الذاتي يظل يعرج إذا لم يتحول إلى إدارة ذاتية مرنة بعيدة عن المركزية البيروقراطية ولها ميزانية مستقلة ويختار لها القياديون الأكفاء، ولا يصلح لهذا النوع من الإدارة سوى أسلوب التمويل على أساس الخدمة والمخرجات مما يعني فصل ممول الخدمة عن مقدم الخدمة.
وهذا أسلوب يمكن ممارسته من خلال أنواع التأمين المختلفة: الحكومي، الاجتماعي، الخاص، أو خليط منها. والقول: إن أي نوع من التأمين تتبناه الدولة يجب ألا يحمل المواطن أي تكلفة هو نوع من اليوتوبيا، لسببين أولهما أنه حتى التمويل الحكومي الذي تطبقه دول مثل كندا والسويد وبريطانيا - سواء أخذ صفة التأمين الحكومي أم لم يأخذ- ولا يدفع المريض له مقابلا عند نقطة الخدمة يتحمل المواطن تكلفته بما يدفعه من ضرائب. وعندما ترتفع التكاليف تغلق الدولة بعض المستشفيات أو الأقسام أو تزيد الضرائب. وثاني الأسباب أنه ليس من أولويات كل المواطنين أن يكون العلاج مجانا، بل إن أولوية كل مواطن أن يجد الخدمة متاحة له وقريبا من متناوله - سواء كانت حكومية أو خاصة ما دام التأمين يغطيها، وأن تكون الخدمة المقدمة جيدة ووافية؛ أي ألا يكون هناك فراغ صحي بسبب نقص في انتشار الخدمة، كما في بعض أطراف المدن الكبيرة أو المناطق النائية القليلة السكان، ولعل الدراسة التي أشار إليها معالي الوزير في ذلك الحوار تنتهي إلى نموذج وطني يجمع بين الإدارة الذاتية وأسلوب التأمين الملائم.
لكننى أعود إلى المركز الوطني لمكافحة الأمراض، وقد كانت رحلته طويلة جدا، وابتدأت قبل حوالي تسع سنوات بفكرة حملها معه معالي الدكتور حمد المانع من زيارة إلى الصين بعد أن شاهد مركز مكافحة الأمراض هناك، واقتنع بجدواها وطرح الفكرة أمام أعضاء مجلس الخدمات الصحية، وهم أصلا على معرفة تامة بتجربة مراكز مكافحة الأمراض في الولايات المتحدة، ولذلك تمخضت مداولات المجلس عن تشكيل لجنة علمية لإعداد مشروع إنشاء المركز، ومن ثم رفعه بعد الموافقة عليه إلى مجلس الوزراء ثم خضع لدراسة معمقة في اللجنة الوزارية للتنظيم الإداري انتهت بقرار إنشاء المركز الذى اعتمده مجلس الوزراء. أهمية هذا المركز تتمثل في أنه يضطلع - بعيدا عن البيروقراطية- بوضع الخطط والتوجيهات العلمية والعملية لمواجهة الأوبئة والأمراض المنتشرة ويشرف على الفحوصات المختبرية ذات الدقة العالية في تشخيص الأمراض المعدية ويحلل البيانات الإحصائية وغير ذلك من المهام التي يمارسها على المستوى الوطني، وعلى الرغم من أهمية المركز فإنه لن يعفي وزارة الصحة من مسؤولياتها التنفيذية في تقديم الخدمات الوقائية في الظروف المعتادة وفى مواسم الحج والعمرة. وهي مسؤولية تحملتها الوزارة بنجاح منذ إنشائها، وكانت وراء النجاحات المتوالية في مكافحة الأمراض الطفيلية والمعدية. وسيكون مركز مكافحة الأمراض أداة مهمة تعين الوزارة في تنفيذ واجباتها إلا أنها جزء من الواجب، فالصحة الوقائية ميدان واسع يشارك فيه جهات متعددة ذات علاقة بالصحة العامة. لكن التكامل والتنسيق المنهجي المنظم غائب عن هذا المجال الحيوي الأكثر جدوى والأقل تكلفة. وفى إمكان وزارة الصحه قيادة جهود التنسيق علميا وعمليا، وربما تكون البداية بمؤتمر علمي يعقد لهذا الغرض.
وأخيرا أقول لمعالي الدكتور حمد المانع: ها أنت رأيت بعينيك ما غرست يداك؛ ولمعالي الدكتور عبدالله الربيعة: أنت الآن فلاح الأرض فهنيئا لك ما سقيت ورعيت وما تزرع الآن ونجني ثماره غدا، وأبقى الله خادم الحرمين الشريفين داعما للصحة ومغدقا عليها برعايته الكريمة.