عادت نداءات العودة للخلافة مع الثورات العربية.. وقد طرحت في مقالات سابقة أنه -باستثناء الخلافة الراشدة- فإن الخلافة الإسلامية لم تكن إلا امبراطوريات ديكتاتورية فاسدة ظالمة تعاقبت على حكم المسلمين، حتى سلمتهم للعالم وقد أنهكتهم فرقة وفقراً وجهلاً وأسراً وذلاً. والناس تستهول وتستعظم كلاماً كهذا لأنه يعني تحميل المسلمين مسؤولية تردي أوضاعهم، كما إن فيه هدماً لمعارفهم التي تعلموها ولآمالهم وأحلامهم التي يعيشون عليها، فما أضيق العمر لولا فسحة الأمل.
ويعزو المسلمون مكانهم في مؤخرة الأمم بينما كانوا في زمن ما يُعدون بين الأمم لغياب الخلافة، رغم أن الخلافة هي من وضعتهم في مؤخرة الأمم. ولهذا التناقض فشل المسلمون في تحديد معنى الخلافة، واكتفوا بأن جعلوه حلماً وردياً يتحدث عن عزة وأمن ورخاء. ثم قام المتأخرون بتعظيم الجانب المضيء للخلافة على ندرته، والسكوت عن الجانب المظلم المهول على كثرته التي كتبها من عاصر الخلافة.
ومعنى الخلافة الأقرب للشرع هو الحق في الحكم المطلق لمسلم قرشي لإدارة بلاد المسلمين وفي تعيين خليفته على أن لا يكون من نسله. فقد بدأت الخلافة مع الصديق، ثم هو رضي الله عنه عين الفاروق، ثم هو رضي الله عنه خصص الستة الذين من بينهم يكون الخليفة. وبمقتل ذي النورين رضي الله عنه انتهت الخلافة لعدم اجتماع البلاد الإسلامية على أبي الحسن رضي الله عنه. فشرط النسب يُخرج العثمانيين من الخلافة.. وشرط عدم التوريث يُخرج الأمويين والعباسيين ويؤيد هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام «الخلافة ثلاثون سنة ثم يكون بعد ذلك ملكا». وهذا الحديث وإن كان فيه نظر إلا أن الخبر يصدقه. والخلافة الراشدة نظرية صحيحة يشهد التاريخ بصلاحية تطبيقها لو أخذت بجميع معطياتها. ومن أهم معطياتها أن يكون غالب الناس حديثي عهد بالنبوة، فإذا ضعف الشرط زالت الخلافة كما حدث لعلي رضي الله عنه.. وهو شرط يشهد للزومه واقع الخلافة المظلم لدهور تجاوزت الألف عام. فالخلافة اليوم إذاً ممتنعة إذا طُرحت كدعوة دينية، لامتناع خروج نبي قيل عيسى عليه السلام.
وأما إن طُرحت الخلافة كدعوة إصلاحية، فالتجربة التاريخية الطويلة لأكثر من ألف عام تؤكد بأن الإصلاح هو أبعد ما يكون عن نظام الخلافة. والذي قلب هذه الحقيقة هو تعظيم صغائر المعروف وتحقير كبائر الآثم، والتجاهل عن النتائج. وقد كان هتلر أعظم زعيم إصلاحي قاد بلاده من الذل والفقر والجهل إلى مصاف أعظم الأمم ولكنن انتهى بها إلى المقصلة، فهل هتلر نموذج يجب على الألمان الاقتداء به. وهكذا، لا يخلو زعيم من إنجازات، تكبر أو تصغر، وهذه إيران وكوريا الشمالية وطموحهما النووي وتمردهما على العالم هو عز في تقدير السفيه وذل في تقدير الحكيم.
إذاً فالحكم العام يكون للغالب الأعم وللنتائج النهائية.. وقد كانت البلاد الإسلامية مسرحاً للثورات والدماء، وقد قتل في خراسان وحدها في انقلاب العباسيين أكثر مما قتل في الحرب العالميتين مجتمعتين. وقتل من المسلمين في فتنة القرامطة أكثر مما قتل في الفتن الشعبية في العالم كله لقرن مضى. وكل جيش تُسيره الخلافة للثغور، يقابله تسيير عشرات الجيوش لقتال المسلمين. وغالب انتصارات المسلمين في الثغور، كانت على أيد الخارجين على الخلافة ومن أشهرهم صلاح الدين. والعلوم الدنيوية التي نفاخر الناس بها، كالطب والجبر والهندسة وغيرها كانت مخنوقة مكتومة. إن نجا العالم من القتل والسجن، فلا يسلم من التكفير والتفسيق. ولم تساعد الخلافة التطور العلمي إلا وقتياً عند حاجتها لبناء القصور، وللتمتع بالترف العقلي عند بعض الخلفاء كالمأمون الذي نشر الفتن العقائدية وفتن الناس في دينهم.ويشهد لهذا، هزالة مجموع النتاج العلمي الإسلامي الذي ما كان إلا امتداداً طبيعياً لعلوم الأمم من قبلنا.
وعند التأمل الصحيح لتاريخ المسلمين سنجد أن النتيجة النهائية للخلافة هي هدم الأمة الإسلامية ووضعها بالمؤخرة في جفرة لا تستطيع الخروج منها. فمجد الأمة الإسلامية العظيم قد تم تشيده في مائة عام. وقد انتهى بموت -أمير المؤمنين- عمر بن عبدالعزيز، الذي انتهت الفتوحات في عهده، ثم بعد ذلك استغرق نظام الخلافة ألف عام لهدم البناء ووضع المسلمين في الجفرة.
وعند تقييم الخلافة بمقارنتها بالإمبراطوريات التي عاصرتها قد نجدها أفضل نسبيا منها إلا أنها لم تكن الأفضل من بين من سبقها من امبراطوريات الصين واليابان والهند واليونان. وأما إن قارنا نظام الخلافة بالأنظمة المعاصرة، فلا ينكر منصف أن أفضل أنظمة الحكم الإنسانية التي شهد لها التطبيق الواقعي هو الأنظمة الديمقراطية الحديثة التي تقوم على خلاف الأساسيات التي تقوم عليها الخلافة. فلا دعوى في الأنظمة المعاصرة الناجحة للأممية. ولا توجد فيها فردية لحاكم مطلق في تعيين من يخلفه ولا ديمومة له حتى موته ولا حق مطلق في التشريع -بدعوى دين يُهندس على مصلحة السياسي أو نحوه-. فهذه الأمم الغالبة اليوم التي نزعم أننا كنا أفضل منها، حققت في مئتي عام من التقدم والرخاء والعلوم لشعوبها ما لو قسناه بألف عام من خير نتاج الخلافة لكان مجموع نتاج الخلافة من خير كقطرة في بحر نتاجهم. ولو قارنا تعدياتهم على الشعوب الأخرى وظلمهم لها، ما جاءت شيئا مع تعديات الخلافة على الشعوب الأخرى فضلاً عن قتال الخلافة لشعوبها.
إن الذي يُنشد الخلافة من أجل وحدة المسلمين لا يختلف منطقه عن منطق الذي يناصر الأسد من أجل وحدة سوريا، وعن الذي يبكي القذافي لحفاظه على ليبيا موحدة دهراً من الزمن. ولا يفترق عن الذي يترحم على صدام لجمعه العراق باختلاف مذاهبه. فمتى يستيقظ المسلمون ويدركوا أن الافتخار بالتراث أمر والمطالبة بالعودة إليه أمر آخر. فكم هو جميل الفخر بتاريخ شظف الحياة والصبر عليها، وكم هي الحماقة المطالبة بالعودة إليها.
hamzaalsalem@gmail.comتويتر@hamzaalsalem