عشنا بفضل الله؛ عدة أيام، كلها خير وبركة ورحمة من رب العالمين، فقد عمت الأمطار أجزاء واسعة من التراب الوطني، فسالت الشعاب والأودية، وارتوت الأرض، وعمّ السرور والفرح قلوب الناس كافة.. اللهم زد وبارك.
لقد صاحب هذا الموسم المطير؛ حوادث متفرقة، بين غرق وتلف ونحواً من ذلك، فذهبت بعض الأنفس، ودمرت بعض الدور، والبعض من أراضي الزروع، ولكن في المطر خير وبركة، وفيه خلف لكل تلف، فلولا الماء من السماء، لما كانت على الأرض حياة ولا نماء.. ألم يقل عز من قائل: (وجعلنا من الماء كل شيء حي)..؟
تمر بنا مواسم مطيرة، ونعيش فيها تجارب مريرة، ولكنا على ما يبدو، لا نبالي بما يُهدى إلينا من دروس مجانية، لا في مدننا، ولا في قرانا، ولا في بوادينا..! ففي كل مرة، تأتي السيول على مشاريع ومجمعات سكنية، فتتلفها، ويذهب ضحية لذلك رجال ونساء وأطفال، يموتون غرقاً في واد سائل، أو سد فائض، أو بئر .. أو حتى حفرة مليئة بالماء..!
حقيقة الأمر.. أن مسئولية كل هذا الذي يجري؛ ليس على المطر ولا على السيل، فالسيل منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها، وهو يعرف طريقه، ولا يحيد عن مسيره، ولكن المسئولية بكاملها تقع علينا نحن البشر الذين لا نحسن التعامل مع الظروف المناخية، التي فيها أمطار وسيول ورياح وغيرها، ولم نتعلم من آبائنا وأجدادنا هذه الثقافة، التي تربط الإنسان ببيئته وحياته على أرضه، فالذين سبقونا؛ كانوا يبنون دورهم في المرتفعات البعيدة عن الأودية ومجاري السيول، وكانوا يعرفون متى يخرجون وكيف يتلقون المطر.. نحن على العكس من ذلك، استسلمنا لبشع أطباعنا، وجشع أطماعنا، فخططنا بطون الأودية، وسكناها، واتخذنا منها الطرق، بل وتجاوزنا في كثير من مدننا؛ بأن حورنا مسارات الأودية، وحرفنا اتجاهاتها، وظننا أن المساريب الضيقة التي دفناها تحت الأرض، تستوعب سيول الأودية والشعاب..! وزدنا على ذلك، بأن عبثنا بهذه الاتجاهات، حتى في أوديتنا الزراعية، فضيقنا المسايل، وحورنا المجاري، وأقمنا الحواجز، فما هي إلا ساعات مطر هنا وهناك، حتى تأتي السيول، فتكتسح المحدثات على طرقها، وتصحح ما خرب من مساراتها، فتمسح المزارع، وتدخل الدور، وتتلف الممتلكات، ويضج المتضررون، طالبين من الدولة التعويضات..؟!
كم من مرة عشنا هذه الحالة..؟ وكم من مرة يفقد الناس ممتلكات ودورهم؛ التي عرضوها على مسارات السيول، ولم تعترضهم السيول، فتسعى الدولة لتعويضهم..؟!
الأمر والأدهى من هذا يا سادة يا كرام.. أن نشاهد مغامرات ( عبيطة ) من كبار الناس وصغارهم، بحيث يدخلون راجلين أو راكبين، فيخوضون في عباب سيول الأودية الهادرة، وهم لا يعرفون ما شكل الأرض التي يسيرون عليها، ولا درجة تماسكها أو عمقها، ثم تغمرهم السيول وتجرفهم وهم في سياراتهم إلى مسافات بعيدة..! ما الذي يجبر هؤلاء على الرمي بأنفسهم إلى التهلكة بهذه الطريقة العجيبة الغريبة..؟!
كيف نتقي مخاطر الأمطار، ونفر من مهالك السيول..؟ وكيف نراعي هذا الجانب في تخطيط المدن، وإقامة المشاريع..؟ هذه هي الثقافة التي تنقص جيل هذا اليوم، الذي يتسقط أخبار هذه الأجواء عادة، وكأنه ذاهب بأسرته إلى مهرجان في الهواء الطلق، دون أن يحسب أي حساب لعواقب الأمور..
الكل يحب المطر، ويفرح أيما فرح برؤية السحاب والبرق، وسماع الرعد، ولكن الاحتياط واجب، والحذر أوجب.
ومن لطيف ما يذكر في هذه المسألة؛ أن أحدهم قال: (أنا أصلي بلا وضوء، وأهرب من رحمة الله، وأكره الحق )، فعوتب في ذلك، إلا أن علياً بن أبي طالب رضي الله عنه حل اللغز كما يُقال، فقال: (نعم.. أصلي على النبي بدون وضوء، وأهرب من المطر وهو رحمة الله، وأكره الحق وهو الموت)..!
ومن يبحث في التراث الإسلامي والعربي، يجد الكثير من الآداب التي يُندب إليها في حالات المطر والسيل والبرق والرعد ونحوه، ويجد كذلك الكثير من أدبيات غاية في الجمال، ومنها الشعر بطبيعة الحال، ومن ذلك؛ هذه الأبيات الرصينة لغة ومعنى ومبنى، من قصيدة لشاعر جاهلي هو (أوس بن حجر التميمي).. فحل مضر في الشعر كما يقال. كان يُعجب بشعره كثير؛ منهم الأصمعي، وأبو العلاء المعري. لم يكتب شاعر قبله ولا بعده بهذه الصورة (الفوتغرافية) العجيبة، إن صح التعبير. يقول في وصف البرق والرعد والمطر والسيل:
إني أِرقتُ ولم تأرَق معي صَاحي
لمُستكفٍ بُعَيدَ النّومِ لَوّاحِ
قد نمتَ عني وباتَ البرق يُسهِرُني
كما استضاءَ يَهوديٌ بِمصباحِ
يا مَن لِبَرقٍ أبيت الليل أرقُبهُ
في عَارضٍ كمُضئِ الصُّبحِ لماّحِ
دانٍ مُسِفٍ فوَيقَ الأرض هَيدبُهُ
يكادُ يَدفَعُهُ من قام بِالراحِ
كأَنّ رَيِّقهُ لما عَلا شَطِباً
أقرابُ أبلق ينفي الخيل رمّاحِ
هبت جنوبٌ بأعلاهُ ومال بهِ
أعجازُ مُزنٍ يَسُح الماء دَلاّحِ
فالتَجَّ أعلاهُ ثُمّ ارتجّ أسفلهُ
وضَاقَ ذرعاً بحملِ الماء مُنصاحِ
كأنما بين أعلاهُ وأسفلهِ
ريطٌٌ منَشَّرةٌ أو ضوء مَصباحِ
ينفي الحصى عن جديد الأرض مُبتركٌ
كأنهُ فاحِصٌ أو لاعِبٌ داحي
فَمَن بنجوتِهِ كمن بِمَحفِلِهِ
والمُستكِنُّ كمن يمشي بقِرواحِ
كأن فيه عِشاراً جِلّةً شُرُفاً
شُعثاً لهاميم قد همّت بإرشاحِ
بُحاً حنَاجِرهاَ هُدلاً مشَافِرُها
تُزجي مرابعها في صحصحٍ ضاحي
فأصَبحَ الروضُ والقيعانُ مُمرِعَةً
من بين مُرتَفِق منها ومُنطاحِ
H.salmi@al-jazirah.com.saalsalmih@ymail.com