أتاحت لي مناسبة كريمة خاصة فرصة قضاء يومي خميس وجمعة في المدينة المنورة، والصلاة في مسجد رسول الله عليه الصلاة والسلام، والتلذذ بروحانية هذا المكان الطاهر. وقد أعجبني ما شهدته في المدينة من اتساع عمراني وشوارع فسيحة حديثة؛
فقد مرت أكثر من ثماني سنوات على زيارتي الأخيرة للمدينة المنورة. وعندما أعبر ساحة المسجد النبوي الشمالية الفسيحة أجيل البصر يمنة ويسرة؛ فألاحظ أن أعداد المتجهين للمسجد يملؤون الساحة، وأن المصلين يملؤون المسجد بما يفوق كثيراً جداً ما شاهدته قبل ثماني سنوات. هل هذه ملاحظة ساذجة؟ ربما. ولكن الذي لم يتغير هو بساطة المظاهر الخارجية لهؤلاء؛ فلا تستطيع التفريق بين الفقير والغني والمدير والعامل، وأيضاً اختلاط الناس من مختلف الأجناس والأقطار والمذاهب، وازدحام الشوارع المجاورة للمسجد ببسطات عارضي البضائع الرخيصة من كل نوع. إنه مظهر كله بساطة وألفه، وهذا هو ما يميز الدين الإسلامي، ويجتمع عليه الناس؛ فالغلو والتعصب اللذان يفرقان ولا يجمعان لا مكان لهما هنا.
لكن مشاهداتي لم تصرف عني بعض الخواطر التي ثارت في نفسي.
الخاطرة الأولى: حول توسعة المسجد النبوي:
من أجل الآلاف المؤلفة من المسلمين تواصلت العناية بالمسجد. وكانت تتم في كل حقبة تاريخية توسعة للمسجد لاستيعاب الأعداد المتزايدة. وفي العهد السعودي جرى إحداث توسعتين، كانت آخرهما في عام 1414هـ. ويجري الآن الاستعداد على قدم وساق لتنفيذ التوسعة الثالثة، التي ستزيد مساحته وتضاعف طاقته الاستيعابية التي تبلغ حالياً سبعمائة ألف مُصَلٍّ في المسجد والساحات. وعندما دخلتُ المسجد لأداء صلاة الجمعة قبل دخول الخطيب بساعة كان المسجد قد امتلأ، وما إن أُقيمت الصلاة حتى كان المسجد بأروقته وممراته مكتظاً بالمصلين. وتمنيتُ لو كان للمسجد دور ثانٍ لكنت صعدت إليه وأديت الصلاة مرتاحاً، وأظن العديد من المصلين كانوا يتمنون ذلك أيضاً. وأخبرني جاري الجالس بجانبي - وهو من سكان المدينة - أن ما أشاهده هو الوضع العادي، أما في رجب مثلاً فإن الزحام يكون على أشده. التوسعة إذن ضرورية لمسجد يتكون من دور أرضي وساحة تحيط به، لكنها ستكون توسعة أفقية، لا عمودية، وتلتف حول المسجد من الشرق والغرب والشمال؛ ليصل حد ساحة المسجد إلى الطريق الدائري، أي أبعد من حد الساحة الحالي بما يزيد على ثلاثمائة متر. وسيُزال في سبيل التوسعة أكثر من مائة وعشرين عمارة. وقلت لجاري: الحمد لله أني قمت بهذه الزيارة قبل التوسعة؛ لأنها عندما تنتهي سأكون قد قاربت الثمانين - إن كان في العمر بقية - وغير قادر على تجاوز هذه المسافة الطويلة لأحظى بقرب الروضة الشريفة. لكنه طمأنني بأن ممرات وأنفاقاً وسلالم تحت الأرض ستوصلني إلى مبتغاي؛ فالتقنية الحديثة وإن كانت أكثر تكلفة وتعقيداً إلا أنها تذلل الصعاب، إن كان لا يوجد خيار آخر.
الخاطرة الثانية: حول المدينة والثقافة الإسلامية:
قلتُ آنفاً إن الإسلام يتميز بالبساطة والألفة اللتين يجتمع عليهما الناس. وليس مثل الثقافة والتعريف بأوعيتها شيء يجمع الناس ويؤلف بينهم حتى لو اختلفت الآراء والمشارب؛ لأنها عامل تنوير ضد التعصب والانغلاق. ولا أعني بالثقافة الإسلامية ما يُدرس في بعض المناهج المدرسية بما يحمله من أسلوب التلقين وتعليب الآراء، بل أعني كل ما حفل به التراث الإسلامي على مر العصور، وما تنتجه الشعوب المسلمة في العصر الحاضر من فكر وآداب وفن باللغة العربية وما يترجم إليها. أليست المدينة المنورة - وفيها المسجد النبوي والروضة الشريفة والجامعة الإسلامية - مؤهلة لتكون عاصمة دائمة للثقافة الإسلامية، يمكنها أن تحتضن مؤتمرات ثقافية ومهرجاناً دورياً للثقافة والتراث الإسلامي ومعرضاً دائماً للكتب وبحوثاً علمية حول فهم التشريع الإسلامي في ضوء متغيرات العصر ونوازله وحول التقاليد والخرافات المؤذية التي تطبع السلوك العام باسم الدين، كما يمكن أن تحتضن حوارات بين المذاهب، ولِمَ لا؟ مثل مركز الحوار الوطني في الرياض أو مركز حوار الأديان في فيينا.
الخاطرة الثالثة: حول إجازة نهاية الأسبوع:
عندما يقضي المرء يوم الخميس في شغل شاغل فإنه لا يشعر به، ولا يستمتع به بوصفه يوم إجازة، بل كأنه يوم عمل؛ ولهذا كنت منشرح الصدر صباح يوم الجمعة التالي؛ فقد شعرتُ كأنه اليوم الأول من إجازة نهاية الأسبوع. وهذا الشعور بالانشراح جلب معه الشعور بالنشاط في الاستعداد لأول عمل أقضيه في هذا اليوم، وهو أداء صلاة الجمعة، على عكس الحال عندما تكون صلاة الجمعة في اليوم الثاني من الإجازة بعد يوم من الاسترخاء والسهر، وربما البعد عن مقر السكن. ثم خطر في بالي أن هذا الشعور بحلاوة أداء صلاة الجمعة سوف يكون أقوى عندما تكون إجازة نهاية الأسبوع فعلاً في يومي الجمعة والسبت؛ إذ يقضي المرء صلاته دون أن يعكر صفو روحانيتها انغماس المرء في إجازته. كما أن الوقت المتبقي من يوم الجمعة وكامل يوم السبت سيكون خالصاً لمتعة الإجازة. ولكثير من الناس في إجازة الجمعة والسبت مآرب أخرى، لكني هنا أسجل خاطرة، ولا أكتب تحليلاً اقتصادياً.