أحياناً أفكر في حالنا، فمن يصدّق أن بلادنا بمساحتها التي تزيد عن مليوني كم، أي بما يفوق دول أوروبا الشرقية مجتمعة، لا يوجد فيها نقل عام، يربط بين مدنها المتباعدة، ومساحاتها الشاسعة، على مدى ثمانين عاماً؟ ومن يصدّق أننا نفرح كأطفال سعداء، رغم أننا في خريف العمر، حينما نسمع عن مشروعات السكك الحديدية، التي يجري العمل فيها على قدم وساق وحلم؟ ومن يصدّق أن مدننا الضخمة، كالعاصمة الرياض، تضم سكاناً يقارب عددهم سكان دول الخليج المجاورة مجتمعة، ولم تزل أيضاً بلا نقل عام، إلا إذا كان خط العليا دلة، الذي يؤمِّن رحلاته ملاَّك سيارات خط البلدة العتيقة، يعتبر نقلاً عاماً، يليق بعاصمة دولة تعتبر من دول العشرين؟
ومن يصدّق أن الطلاب كانوا إلى وقت قريب يهاجرون من المدن والقرى في الشمال والجنوب، باتجاه العاصمة، للالتحاق بجامعاتها؟ قبل أن يطلق الملك عبدالله قيد التعليم العالي، وينشر الجامعات في معظم مدن المملكة، في خطوة مهمة لوقف الهجرة إلى العاصمة.
ومن يصدّق أن المعلمات السعوديات المناضلات، وفي الألفية الجديدة، يتنقلن بين المدن والقرى في سيارات فان متهالكة تحمل مسميات «أبو عبدالله لنقل المعلمات» ورفاقه الكثر، وفي أدنى شروط السلامة المطلوبة؟
ومن يصدّق أن هذه البلاد العظيمة، بثرواتها الاقتصادية الضخمة، وبنموها الاقتصادي المتسارع، تنقل بضائعها من الموانئ إلى كافة المدن بواسطة الشاحنات التي دمرت طرق الإسفلت المعبدة، قبل أن تلتهم المسافرين في سياراتهم الخاصة؟
ومن يصدّق أننا الآن بدأنا نتنبه إلى أننا نعيش في صحراء، تعاني من الجفاف، وتتعرّض لضغط رهيب على استهلاك الطاقة خاصة في الصيف، وأننا كلما انطلقنا في مشروع نقل جديد تعثر المشروع الآخر، وكلما أنجزنا مشروع نقل جديداً، اكتشفنا أن المشروع القديم قد انتهى عمره الافتراضي، ويجب إحالته على التقاعد، وخصوصاً أننا لا نعرف في الصيانة شيئاً، رغم أن أحد أبواب ميزانية الدولة الأربعة مخصص للتشغيل والصيانة، فلا أعرف أين تذهب مخصصات هذا الباب في الجهات الحكومية المتعددة!
على سبيل المثال، بينما ننتظر إنجاز مشروع مطار الملك عبدالعزيز الجديد في جدة، نسينا أن نقوم بصيانة مطار الملك خالد الدولي، في العاصمة الرياض، حتى أصبح السفر من خلاله أمراً محزناً، رغم أن مساحاته المحتجزة تفوق أكبر مطارات العالم، وهي الإحصائية التي خدعنا بها لسنوات، وهي أنه أكبر مطار في العالم، وذلك بسبب مساحة البراري المحتجزة له، إلا إذا كانت ستصبح يوماً صالات جديدة باهرة في مطار العاصمة، كما هو شأن جامعة الملك سعود التي تحولت مساحاتها تلك، إلى مشروعات وقف تشمل عمارات مكتبية وفنادق، أنشئت في زمن طيب الذكر الدكتور عبدالله العثمان.
كم أتمنى أن يأتي اليوم الذي يقرأ فيه أبناؤنا - وربما أحفادنا - مقالي هذا، بعدما تكون هذه البلاد قد أنجزت شبكة خطوط حديدية، ومطارات رائعة، ونقل قطارات مترو داخل المدن الكبرى، فيقول هذا القارئ بعد أن يتنفس بعمق، وهو يبتسم: كان زمن الطيبين!