من الناحية المثالية الممزوجة بالكثير من الخيال -وللأسف- يحلو الحديث عن حدود عربية مفتوحة بين جميع الأقطار العربية بلا حواجز ولا جمارك ولا نقاط تفتيش ولا «سين أو جيم». هذه الصورة التي نَصِفُها بـ»الخيالية» هي حصيلة سنوات طويلة من الخيبات التي جرَّتْها سياسات الحكومات العربية المتعاقبة منذ أيام الاستقلال من الاستعمار. فقد ظلت الحكومات تكيد لبعضها البعض، ثم انْجَرَّتْ معها الشعوب، وتفرقنا إلى قبائل وأمم بعد أن كنا شعباً عربياً واحداً من المحيط إلى الخليج نتغنى بأمجاد سابقة ونلعن سايكس وزميله بيكو اللذين رسما الخريطة الجديدة التي مزقت العالم العربي وفرَّقته إلى «دويلات».
ومنذ أيام سايكس وبيكو حتى الآن لم يتوقف الكذب والنفاق، فالكل يلعن الرجلين اللذين تحللت عظامهما من فرط طول الأمد الذي مر منذ وفاتهما، ومع ذلك لا أحد تقريباً يؤمن -من الناحية العملية- بإمكانية تحقيق الكلام العاطفي الذي يتم ترديده عن فتح الحدود العربية. وليت الأمر يتوقف على الحكومات العربية فقط، بل حتى الشعوب العربية نفسها لم تعد تؤمن بما تقوله في لحظات الصفاء والانغمار في مشاعر الحنين إلى الماضي لأنها عند أول مباراة بين فريقين رياضيين ينتميان لدولتين عربيتين مختلفتين تنتفض وتطغى عليها مشاعر الكراهية والحقد والعنصرية المتبادلة مثلما حدث بين الجزائر ومصر بعد المبارة الشهيرة -لا أعادها الله- عندما خيمت غيومٌ ثقيلة على العلاقات الرسمية والشعبية بين البلدين حتى خشينا أن تقوم حربٌ طاحنة بين البلدين!
لقد اتضح أن الخيال يظل خيالاً، وقد يحلو لنا أحيانا أن نستغرق في أحلام يقظتنا. لكن العمل المفيد الذي يمكن أن يتبناه العرب والذي يمكن أن يقربهم من تحقيق طموحاتهم الوحدوية في يوم من الأيام هو العمل التكاملي القائم على المصالح، وأول هذه المصالح هي المصالح الاقتصادية التي يلمسها المواطن.
ماذا يهم المواطن العربي أن تكون الحدود العربية - العربية مفتوحة أو مغلقة إذا كان ثمة مشاريع عربية مشتركة تُدِرُ على ذلك المواطن دخلاً يرفع مستوى معيشته!؟ وماذا يهم هذا المواطن من قصة الحدود إذا كان بإمكانه أن يتدرب على صنعة ما في بلده ثم يذهب للعمل إلى بلد عربي آخر للعمل هناك وفق أنظمة ذلك البلد ويعمل ويعيش بطريقة نظامية وفي أجواء يسودها الاحترام بين أطراف العمل؟
نحن لنا تجربة في المملكة مع العمالة العربية، وقد ثبت أن المملكة ودول الخليج كانت مصدراً مهماً للدخل لرعايا دول عربية شقيقة كثيرة، وأن فرص العمل النظامية المتاحة قد حققت مصلحة العامل ورب العمل عندما تنتظم العلاقة وفق ما تم التعاقد عليه. غير أن هناك من يريد أن يتجاوز حدود العلاقة النظامية ويمارس العمل بطريقة غير مشروعة بل ويشتغل في الممنوع من الأنشطة بما في ذلك الأنشطة الإجرامية. ثم تطور الأمر إلى ما هو أخطر عندما بدأت أعداد هائلة تتسرب من الحدود الجنوبية للمملكة بما في ذلك عناصر إفريقية تدخل اليمن ثم تتسلل للسعودية وتنغمس في أعمال التهريب وتتعامل في تجارة غير مشروعة للسلاح والمخدرات والمسكرات وجميع الممنوعات.
عندما يكون الأمر على هذا النحو هل يجوز أن يأتي من يتغنى بأحلام الحدود المفتوحة ويلوم مشروع السياج الذي يحمي أمن واستقرار البلد على حدودها الجنوبية وسط تزايد أعمال تهريب السلاح والمخدرات والبشر؟ بل إن تلك الظاهرة التي صبرت عليها المملكة طويلاً على أمل أن تنصلح الحال بإجراءات من الطرف الآخر على الحدود قد أغرت صحفياً أردنياً شهيراً أن يزايد على استتباب الأمن على حدودنا الشمالية ويقارنه بما يحدث على الحدود الجنوبية ثم ينسب الفضل في ذلك إلى «جهود» سلطات بلده ويطالب بالتعويض مقابل تلك «الجهود»!!
وفق هذه الخلفية، وبسبب الانهيارات المأساوية في دنيانا العربية وسقوط الأحلام والتطلعات، لا أعتقد أن عاقلاً يلوم المملكة حين تضطر إلى حماية أمنها وحدودها بأي طريقة، بما في ذلك السياج الذي لا يصد القادمين النظاميين للبلد ولكنه يحول دون تسلل المهربين وتجار السلاح والمخدرات والمتاجرين بالبشر.
alhumaidak@gmail.comص.ب 105727 - رمز بريدي 11656 - الرياض