لمن لم يكن يعلم فإن عنوان صحيح البخاري، وهو عنوان له دلالته وله أثره في مقالنا هذا، هو: الجامع الصحيح المسند المختصر من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه كما ذكر الحافظ ابن حجر في مقدمته لفتح الباري. وذكره في كتابه تغليق التعليق باسم: الجامع الصحيح المسند المختصر من أمور سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه.
وهنا مقدمات ممهدات لا بُدَّ منها:
- المقدمة الأولى: «دين المسلمين مبني على اتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما اتفقت عليه الأمة، فهذه الثلاثة هي أصول معصومة، وما تنازعت فيه الأمة ردوه إلى الله والرسول، وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصاً يدعو إلى طريقته، ويوالي عليها ويعادي غير النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينصب لهم كلاماً يوالي عليه ويعادي غير كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم أشخاصاً أو كلاماً يفرقون به بين الأمة، يوالون على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون» (ابن تيمية).
- المقدمة الثانية: «لا بُدَّ أن يكون مع الإنسان أصول كلية يرد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت، وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات وجهل وظلم في الكليات فيتولد فساد عظيم» (ابن تيمية).
ومعرفة الأصول، أي أصول المسائل، هي الفقه الذي يؤصل ويفرع. قال سعيد بن عمرو البرذعي: سمعت محمد بن عبد الله بن عبد الحكم يقول: ليس أبو عبيد عندنا بفقيه، فقلت له: ولِمَ؟ قال: لأنه يجمع أقاويل الناس، ويختار لنفسه منها قولاً. قلت: فمن الفقيه؟ قال: الذي يستنبط أصلاً من كتاب أو سنة لم يسبق إليه، ثم يشعب من ذلك الأصل مائة شعبة. قلت: ومن يقوى على هذا؟ قال: محمد بن إدريس الشافعي.
وهذا وإن كان يصدق على المجتهد المطلق إلا أن الشاهد منه أن الفقيه لا بُدَّ له من أصول يردُّ إليها فروع المسائل، وهو في كل باب من أبواب الفقه يحتاج إلى أن يؤصل أصلاً أو أصلين أو ثلاثة أو أكثر، يرد إليها جميع مسائل الباب، ومن ثمَّ تبدو أحكامه الفقهية متسقة؛ لأن منزعها في الاستنباط والاستدلال واحد. وهذا النوع من البحث والنظر تجده مكتوباً في مدونات الفقه الكبرى، أو التي عنيت بالتقعيد والتأصيل. وقد تكون لفتات تعرض في أثناء البحث، ومن أمثلة ذلك قول أبي بكر الرازي الجصاص في شرحه لمختصر الطحاوي في أثناء بحث مسألة: «ثم الكلام في مقدار ما يطهرها إخراجه: طريقه الاجتهاد، وما كان طريقه الاجتهاد من هذه المقادير لا يتوجه علينا فيه سؤال، كتقويم المستهلكات ونفقات الزوجات ونحوها». ويقول في مسألة أخرى: «الأصل عندنا أن ما كان بالناس عندنا إليه حاجة عامة فسبيله أن يرد النقل بحكمه مستفيضاً متواتراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا محالة يوقفهم عليه، وهم مأمورون بالنقل والإبلاغ».
ومثال آخر يقول فيه المقري في كتابه قواعد الفقه: التعزيرات اجتهادية بقدر الفعل والفاعل ووجه الفعل. وفي باب القذف من «المفيد» تقديرات بعيدة من أصل الشرع وقواعد المذهب، ونعوذ بالله من القول في دينه بغير علم.
ومثال ثالث فقد قال ابن تيمية في صلاة المأموم: وهل هي مبنية على صلاة الإمام؟ أم كل واحد منهما يصلي لنفسه؟ قال: فأصل أبي حنيفة أنها داخلة فيها, ومبنية عليها مطلقاً حتى أنه يوجب الإعادة على المأموم حيث وجبت الإعادة على الإمام. وأصل الشافعي: أن كل رجل يصلي لنفسه لا يقوم مقامه لا في فرض ولا سنة، ولهذا أُمر المأموم بالتسميع، وأوجب عليه القراءة، ولم يبطل صلاته بنقض صلاة الإمام إلا في مواضع مستثناة. وأما مالك وأحمد: «فإنها مبنية عليها من وجه دون وجه». فلاحظ كيف أن ابن تيمية عرف أصول الأئمة في هذا الباب ثم راح يردُّ مسائل الباب إلى هذه الأصول، وظهرت في غاية الاتفاق والاتساق مع أصولهم.
ونرجع إلى ما ذكره محمد بن عبد الله بن الحكم عن أبي عبيد والشافعي فقد ذكرت الآن أنَّ ابن رشد الحفيد استعار مثلاً من أرسطو للفقهاء الذين يحفظون المسائل ولا يعرفون الأصول التي يقيسون عليها وينطلقون منها؛ فلا يكون لديهم القدرة على توليد المسائل، فمثلهم مثل الخفَّاف الذي عنده خفافُ كثيرة لكن لا يقدر على صنعها بحيث لو قدم إليه إنسان لا تناسب له هذه الخفاف المعروضة فإنه لن يستطيع أن يصنع له خفاً مناسباً. وهو يرى أن كتابه بداية المجتهد سيقوم بتيسير هذه المهمة، أي أنه يضع فيه أصول المسائل التي تعطي الفقيه الملكة في القياس والتفريع.
وعلى ضوء ما تقدم نستطيع أن نقول: إن كثيراً من الأخطاء المنهجية في البحث الفقهي سببه أن الناظر والباحث ليس له القدرة والتمكُّن من الكشف عن أصول المسائل ومعرفة منازعها، قال ابن تيمية: «ونقل الفقه إن لم يعرف الناقل مأخذ الفقيه وإلا فقد يقع فيه الغلط كثيراً». ولا تكاد تجد القادر على ذلك إلا الواحد بعد الواحد من طلبة العلم.
وكما أن معرفة أصول المسائل في مقالات الحق مهمة وقضية أساس فإن معرفة هذه الأصول في مقالات الباطل مهمة أيضاً؛ ولذلك قال ابن تيمية في الرد على البكري: ومن لم يعرف أسباب المقالات وإن كانت باطلة لم يتمكن من مداواة أصحابها وإزالة شبهاتهم.
- المقدمة الثالثة: وإذا تقرر أن المسائل لا بد لها من أصول ترجع إليها فإن هذا الدين العظيم له أصل واحد وعليه يدور، ومهما حدث من نقص في هذا الأصل فإن التقصير يسري على الدين كله؛ ولذلك فالفقيه الحق يراعي هذا الأصل في بحثه كله، وأي نتيجة أو رأي يرى أنها تعارض أو لا تتسق مع هذا الأصل فإن ذلك يدل على فساد هذه النتيجة وهذا الرأي.
وهذا الأصل العظيم الذي ننوه به هو التوحيد الذي بعث الله به الرسل أولهم وآخرهم، وهو تحقيق كلمة «لا إله إلا الله»، وهو أول الدين وآخره وظاهره وباطنه كما يقول ابن تيمية، ويقول «قوم الدين بالتوحيد والاستغفار»، وقال الإمام المجدّد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: «وهذا دينه، لا خير إلا دلَّ الأمة عليه، ولا شرَّ إلا حذرها منه، والخير الذي دلَّ عليه: التوحيد وجميع ما يحبه الله ويرضاه، والشرّ الذي حذر عنه الشرك بالله وجميع ما يكرهه الله ويأباه».
والذي أود أن ألفت النظر إليه في هذه المقدمة هو أن التوحيد ليس معرفة وإقراراً وتصديقاً مجرداً بل هو مع ذلك حال يخلص العبد فيه الدين لله تعالى بحيث يحقق {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} «بحيث يكون عند الحق بلا خلق وعند الخلق بلا هوى».
ولذلك فإن سبب تعلق القلب بالله تحقيق التوحيد؛ ولهذا يقول ابن تيمية مختصراً: «وأما ما يحصل لأهل التوحيد فأعظم من أن يعبر عن كنهه مقال أو يستحضر تفصيله بال؛ ولهذا قال بعض السلف لقد بورك لك في حاجة أكثرت فيها من قرع باب سيدك». ويقول: «فلا تزول الفتنة عن القلب إلا إذا كان دين العبد كله لله».
وهذه المقدمة يجب أن تكون هي المقدمة الكبرى لكل بحث ونظر إذ «لا بد لكل علم من هداية».
- المقدمة الرابعة: ويتفرع عن المقدمة الثالثة هذه المقدمة التي تخص المحبة الشرعية للنبي صلى الله عليه وسلم «ونعلم أن محبه النبي صلى الله عليه وسلم لا يتحقق الإيمان إلا بها، ولكن حقيقة محبته هي أن يكون أحب إلينا من أنفسنا وأهلينا والناس أجمعين. وهذه المحبة شيء في القلب، وإظهارها يجب أن يكون على وجه مأذون فيه شرعاً، فأما إظهار المحبة على وجه منهي عنه شرعاً فإنه منافٍ لحقيقة المحبة الإيمانية». (المعلمي).
والذي يميز بين المحبة الشرعية وغير الشرعية هو المتابعة الصحيحة للنبي صلى الله عليه وسلم، ويتفرع عن ذلك: أن تعظِّم ما عظَّمه عليه الصلاة والسلام، وعكسه ألا تعظِّم ما لم يعظِّمه صلى الله عليه وسلم وإن خالف ذلك ذوقك ووجدانك؛ فالمسألة شرع.
ولذلك كلما كان الإنسان أكثر اتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم كان أكثر تمييزاً بين المحبة الشرعية وغير الشرعية، بل ثمة أمر آخر وراء ذلك، هو أن «كل من كان بالرسول صلى الله عليه وسلم أعرف كان تميزه بين الصدق والكذب أتم»، وهذا العموم يشمل الصدق والكذب في الأخبار، كما يشمل الصدق والكذب في المفاهيم.
- المقدمة الخامسة: «العبد إذا أخذ من غير الأعمال المشروعة بعض حاجته قلَّت رغبته في المشروع وانتفاعه به بقدر ما اعتاض من غيره؛ ولذا تجد من أكثر من سماع القصائد لطلب صلاح قلبه تنقص رغبته في سماع القرآن». (ابن تيمية).
هذه المقدمة مهمة للغاية، وهي تفصل لك في كثير من الأمور، وهي صالحة للتطبيق معنا في هذا المقام، فإن من اشتغل بشيء غير مشروع يزعم أنه يعبّر به عن محبة النبي صلى الله عليه وسلم فمن المؤكد أنه سيترك من الأمور المشروعة بقدر ما اشتغل بهذه الأمور غير المشروعة، ومن المشاهد أن من مارس بعض الأعمال التي لم يأتِ بها النبي صلى الله عليه وسلم ولا حثّ عليها - وإن صلحت نيته - ترى منه وعليه نقصاً في أداء السنن والالتزام بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، هذا الهدي الذي هو فعلاً تعبيرٌ صادق عن محبة النبي صلى الله عليه وسلم.
- المقدمة السادسة: «لا بد من العمل الصالح، وهو الواجب والمستحب، ولا بد أن يكون خالصاً لوجه الله تعالى كما قال تعالى {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} سورة البقرة (112).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد». وهذا الأصل هو أصل الدين، وبحسب تحقيقه يكون تحقيق الدين، وبه أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، وإليه دعا الرسول، وعليه جاهد، وبه أمر، وفيه رغَّب، وهو قطب الدين الذي عليه تدور رحاه.. وكثيراً ما يخالط النفوس من الشهوات الخفية ما يفسد عليها تحقيق محبتها لله وعبوديتها له وإخلاص دينها له». ابن تيمية مختصراً.
ثم أما بعد: فإن هذه المقدمات الست ضرورية لا غنى عنها عند إجالة النظر في المسائل الإسلامية، سواء من حيث المبدأ وكيف يكون النظر؟ أو من حيث العاديات التي يمكن أن تحرف النظر عن مساره وتطبع عليه طابعاً إسلامياً وهو ليس كذلك.
وإذا شئت أن تعرف مثالاً واضحاً في ذلك فهو مثال الآثار النبوية، وهل آثاره عليه الصلاة والسلام هي سننه وأحاديثه وأيامه؟ أم هي الأماكن التي مرّ منها أو وقف عندها مما لم يقصده تشريعاً؟ أم هي كلا الموضوعين؟
عند النظر في هذا الموضوع لا بِدّ أن نرجع إلى المقدمات الست لتحديد وجهة النظر الصحيحة، فالمقدمة الأولى تتحدث عن أن دين المسلمين مبني على اتباع كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما اتفقت عليه الأمة، وإذا نظرنا إلى هذا الموضوع «الآثار النبوية» من خلال هذه المقدمة فسنجد أن الله تعالى لم يأمرنا في كتابه الكريم ولا كذلك نبيه صلى الله عليه وسلم في سنته بأن نحافظ على هذه الأماكن التي مرَّ بها النبي صلى الله عليه وسلم اتفاقاً، ولم يأتِ التشريع بأمرٍ واجب أو مستحب نحوها، بينما آثاره عليه الصلاة والسلام التي هي بمعنى أحاديثه وسننه وأيامه جاء الأمر بتبليغها والاهتداء والاقتداء بها، فمن ذلك قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} الحشر: 7. قال ابن تيمية: «أمر بطاعة الرسول في نحو أربعين موضعاً». وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (67) المائدة. وقد حفظت عنه أمته هذه الآثار رواية ودراية. ومما يزيد الأمر وضوحاً أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لمن حفظ عنه آثاره، لا بمعنى آثاره المكانية التي أشرنا إليها، بل بمعنى آثاره التي هي سننه وأحاديثه، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم الذي رواه عدد من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نضَّر الله امرأً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلِّغه غيره، فرُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورُبَّ حامل فقه ليس بفقيه».
قال سفيان بن عيينة: ما من أحد يطلب الحديث إلا وفي وجهه نضرة لهذا الحديث.
وقد نهض شداة السنة وطلاب الحديث بهذه المهمة الشريفة بتحمل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبليغها تأليفاً ورحلات وحلقاً عظيمة، لا يوجد لها مثيل في العالم كله، وفي كل الحضارات، فألفوا المسانيد والجوامع والمستخرجات والأجزاء والفوائد حتى تفننوا وأغربوا، وعلى سبيل المثال فالحافظ الكبير أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي ألَّف كتابه العظيم (السنن الكبير) الذي قال عنه الذهبي: (ليس لأحد مثله)، وكتابه (معرفة السنن والآثار)، وغير ذلك من الكتب. ثم لما فرغ من مؤلفاته في السنة شرع في كتاب عن صاحب السنة، وهو كتاب (دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم). فقد ترى كيف أن السلف الصالح ومن سار على منهجهم من العلماء كانوا في غاية الحرص على تتبع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفة سننه وأحواله حتى في أدق التفاصيل. وهذا التتبع البالغ لسنة النبي صلى الله عليه وسلم نتج منه فكر بقدر ما كان عظيماً كان دقيقاً، ولك أن تقرأ في ذلك (نظرية النقد عند المحدثين)، وستعرف النظر العالي لهم في التحقق من ثبوت النص، وهو ما يتعلق بالسند، وأيضاً مواءمة النص مع النصوص الأخرى، وهو ما يتعلق بالمتن. وقد بحثوا في السند في أحوال الرواة، وصنفوهم إلى عدد من الطبقات والدرجات من حيث الثقة والضعف، بطريقة لا يوجد لها نظير في كل الفكر الإنساني بلا استثناء، لا في القديم ولا في الحديث. وبالنسبة للمتن فقد راعى العلماء (المحدثون والفقهاء) أن يسلم المتن من الشذوذ الذي هو بتعبير الشافعي: «إنما الشاذ أن يروي الثقة حديثاً يخالف ما روى الناس»، وقال ابن القيم كما في كتاب الفروسية: «وقد علم أن صحة الإسناد شرط من شروط صحة الحديث، وليست موجبة لصحة الحديث؛ فإن الحديث الصحيح إنما يصح بمجموع أمور، منها صحة سنده، وانتفاء علته، وعدم شذوذه ونكارته، وألا يكون راويه قد خالف الثقات أو شذ عنهم».
فنحن هنا نرى عناية تامة بالسند، وعناية أخرى لا تقل عنها أهمية خاصة بالمتن الذي هو النص، وبذلك نخلص إلى أن المحدثين أسسوا وعملوا على نظرية متقدمة للنقد.
والباحثون في شؤون الحضارات والأمم يدركون ويقررون أن الأمم لا يمكن أن تنهض وترقى إلا بأن يكون محور نهضتها ورقيها نظرية النقد، سواء كانت هذه الأمة أو تلك بسيطة التكوين أو ساذجة التكوين، بمعنى أنها جديدة في سلم الحضارة، أو كانت مركبة التكوين، بمعنى أنها تراكمت عليها مراحل الحضارة حتى أدركها الرهق، فهي تحتاج إلى إعمال نظرية النقد لتصحيح المسار وتقويمها من جديد. ونحن في واقعنا المعاصر من أسباب تأخرنا في العالم الإسلامي الضعف في تقدير الأشخاص، والضعف في تقويم الأشياء، أي أننا لا نملك نظرية صحيحة للنقد.
المهم من ذلك كله: أن الاهتمام بآثار النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثه وسننه وأيامه لن يكون مردوده فقط في العلم الدقيق للسنة، بل إن مردوده ينعكس على حياة الأمة وأسلوب عيشها وطريقة نهضتها وتكوينها.
ثم إننا إذا رجعنا إلى المقدمة الثانية فسنجد أن من ينظِّر للآثار المكانية ليس معه أصل يرجع إليه ويركن، وإنما يتشبث ببعض الأشياء التي هي أشبه بالشُّبه لا بالحجج. وعلى النقيض من ذلك فإن الآثار النبوية التي هي بمعنى الأحاديث والسنن والأيام «شريفة عزيزة كريمة» ومصنفات العلماء فيها بلغت من الكثرة والتنوُّع حدًّا أشبه بالإعجاز كما لا يخفى. والله سبحانه حكيم عليم، لا يجمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة، فعلى أي شيء يدل عناية العلماء قرناً بعد قرن بسنته؟ بينما لا نجد هذه العناية من العلماء بالآثار المكانية التي لم يرد بها تشريع.
ثم إذا رجعنا إلى المقدمة الثالثة، التي تعبر عن الأصل العظيم لهذا الدين، وهو التوحيد، فإن الآثار المكانية التي لم يحثنا النبي صلى الله عليه وسلم على تتبعها والوقوف عندها لا تساعد -حقيقة - على تحقيق التوحيد لله رب العالمين، بل إن لفت الأنظار إليها «يؤدي إلى الغلو الذي يطغى على رسالات الرسل»، وهو أي تتبع الآثار المكانية لم يكن من عمل السلف الصالح، لا من الصحابة، ولا من التابعين وتابعيهم. قال ابن وضاح القرطبي في كتابه (ما جاء في البدع): «وكان مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار للنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ما عدا قباء وأحداً». قال: «وسمعتهم يذكرون أن سفيان الثوري دخل مسجد بيت المقدس فصلى فيه ولم يتبع تلك الآثار ولا الصلاة فيها، وكذلك فعل غيره أيضاً ممن يقتدَى به، وقدم وكيع أيضاً مسجد بيت المقدس فلم يَعْدُ فعل سفيان». قال ابن وضاح: «فعليكم بالاتباع لأئمة الهدى المعروفين، فقد قال بعض من مضى: كم من أمر هو اليوم معروف عند كثير من الناس كان منكراً عند من مضى ومتحَبِّب إليه بما يبغضه عليه ومتقرب إليه بما يبعده منه، وكل بدعة عليها زينة وبهجة».
أما الآثار النبوية التي هي بمعنى أحاديثه وسننه وأيامه فإنها تبيّن التوحيد، وتدل عليه، وتحذر من ضده، ومن الوسائل إليه كما لا يخفى على كل مطلع على السنة النبوية؛ ولهذا قال ابن تيمية في كتابه الاقتضاء: «ومن أراد أن يعلم كيف كانت أحوال المشركين في عبادة أوثانهم، ويعرف حقيقة الشرك الذي ذمَّه الله، وأنواعه، حتى يتبين له تأويل القرآن، ويعرف ما كرهه الله ورسوله، فلينظر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأحوال العرب في زمانه».
وقد سُئل مالك بن أنس عن السنة فقال: هي ما لا اسم له غير السنة، وتلا {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} الأنعام: 153.
ومعاذ بن يحيى الرازي يقول: اختلاف الناس كلهم يرجع إلى ثلاثة أصول، لكل واحد منها ضد، فمن سقط عنه وقع في ضده: التوحيد وضده الشرك، والسنة وضدها البدعة، والطاعة وضدها المعصية.
والذي لا شك فيه أنه كلما كان الإنسان أكثر تضلعاً من السنة النبوية كان أكثر معرفةً لحقيقة التوحيد وحقيقة الشرك ومقدماته وذرائعه، كما تقدم في المقدمة الرابعة من أنه كلما كان بالرسول صلى الله عليه وسلم أعرف كان تمييزه بين الصدق والكذب أتم، ولا شك أن أصدق الصدق التوحيد، وأكذب الكذب الشرك.
والمقدمة الرابعة تتعلق بالمحبة الشرعية للنبي صلى الله عليه وسلم، ويُقال هنا: إن محبة النبي صلى الله عليه وسلم لا شك أنها من أعظم أصول الدين، والأصل كلما كان أعظم مكانة كانت دلائله أكثر، والطرق الموصلة إليه أوضح، والذي دلنا عليه النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن تتبع الأماكن التي مرَّ بها أو وقف عندها، وإنما الذي دلنا عليه أمران:
(أ) حفظ سنته وتبليغها.
(ب) التعبُّد لله تعالى بما شرعه في بعض الأماكن والأزمان امتثالاً للشرع الشريف، لا لذات المكان أو الزمان كما قال عمر رضي الله عنه فيما رواه البخاري ومسلم لما قبَّل الحجر قال: «إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّلك ما قبَّلتك»؛ ولذلك قال ابن تيمية لما تكلم عما يوجد بمكة من آثار ومشاهد: «إنما المشروع إتيان المسجد الحرام خاصة والمشاعر: عرفة ومزدلفة والصفا والمروة»، ثم ذكر أن من البدعة قصد غير ذلك من الجبال والبقاع غير المشاعر «عرفة ومزدلفة والصفا والمروة» مثل: جبل حراء والجبل الذي عند منى الذي يقال إنه كان فيه قصة الفداء، ونحو ذلك؛ فإنه ليس من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم زيارة شيء من ذلك، بل هو بدعة، وكذلك ما يوجد في الطرقات من المساجد المبنية على الآثار والبقاع التي يقال إنها من الآثار لم يشرع النبي صلى الله عليه وسلم زيارة شيء من ذلك بخصوصه، ولا زيارة شيء من ذلك.
وهذه المحبة الشرعية للنبي صلى الله عليه وسلم عبَّر عنها السلف الصالح أصدق تعبير، فيذكر عنهم الشيء الكثير من أداء المناسك وزيارة الحرمين والمسجد الأقصى، ويتقربون إلى الله تعالى برواية حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل ذلك يكررون الرحلات لطلب الحديث مع تحمُّل المشاق ومعاناة لأواء السفر بما بعضه أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة.
إضافةً إلى ما يذكر من جلالة حِلَق الحديث وازدحام الناس عليها، حتى إن محمد بن الحسن الإمام صاحب الإمام أبي حنيفة كان إذا حدث عن مالك والحجازيين تمتلئ داره، وإذا حدث عن أهل العراق يقلُّ الناس؛ وذلك لأن مالك وأهل المدينة أصح حديثاً وأثبت. ومثل - أيضاً - ما جاء عن الحافظ الأثري الكبير عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي فقد كان - رحمه الله- يقرأ الحديث يوم الجمعة بجامع دمشق وليلة الخميس، ويجتمع خلق، وكان يقرأ ويَبكي ويُبكي الناس كثيراً، حتى إن من حضره مرة لا يكاد يتركه، وكان إذا أفرغ دعا دعاءً كثيراً. ولم يكن له نظير في حفظ السنة في زمانه، ومع ذلك كان لا يقرأ من غير كتاب، فسئل عن ذلك فقال: أخاف العجب. ومثله أيضاً ما جاء عن الحافظ المفيد الثقة المسنِد عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي، فقد قال عنه ابن الجوزي: كنت أقرأ عليه وهو يبكي، فاستفدت ببكائه أكثر من استفادتي بروايته، وانتفعت به ما لم أنتفع بغيره.
هذا، والمقدمة الخامسة التي نصت على أن العبد إذا أخذ من غير الأعمال المشروعة بعض حاجته قلَّت رغبته في المشروع. وهذه - والله - تكشف بجلاء أهمية العناية بالسنة والأثر، والخطر الكبير من تتبع الآثار التي لم يشرع الشرع الحنيف تتبعها، ومن عاش ليله ونهاره مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم امتثالاً وقراءة فإن الله تعالى يغني عاطفته ووجدانه عن كل أثر ومشهد. كما جاء عن ابن المبارك أنه كان يكثر الجلوس في بيته، فقيل له: ألا تستوحش؟ فقال: كيف أستوحش وأنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وثبت في الصحيح عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلَّمه». قال البخاري - رحمه الله -: وأقرأ أبو عبد الرحمن يعني السلمي في إمرة عثمان، حتى كان الحجاج، قال أبو عبد الرحمن: «وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا»، يعني هذا الحديث. وهذه المدة من خلافة عثمان إلى ولاية الحجاج مدة لا تقل عن ثمان وثلاثين سنة، ولا تزيد على اثنتين وسبعين سنة كما بيّن ذلك الحافظ ابن حجر.
فهكذا كان السلف الصالح يشغلون أنفسهم بالمشروع، ويجدون له روحاً وريحاناً كما قال ابن رزقويه: والله ما أحب الحياة إلا للذكر وللتحديث.
ويلاحظ أنه مع تباعد الزمن عن صدر الأمة قلَّ الفقه، وكثرت المحدثات كما قال ابن تيمية لما ذكر إشكال اجتماع محرَّمين أو واجبين وأيهما يتحمل؟ فقال: «وهذا باب التعارض، باب واسع جداً، ولاسيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة، فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة». فلاحظ أن آثار النبوة التي تحل الخلاف وتقرب الناس من الصدر الأول هي سنته وأحاديثه وأيامه؟ لكن هذا الالتزام بهذه الآثار الشرعية لا يكون - في الحقيقة - إلا عن فقه يعرف أصول الشريعة وفروعها وعلى ماذا بنيت، و»ما عُبد الله بمثل الفقه» كما يقول الزهري - رحمه الله - وابن رجب يقول في طبقاته: «قلَّ في هذا الزمان من له الخبرة التامة بأحوال الصدر الأول، والتمييز بين صحيح ما يذكر عنهم وسقيمه».
وإننا لنختم بالتأكيد على المقدمة السادسة، فالإخلاص ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم يدلان صاحبهما - بإذن الله - على الصحيح في المسائل والوسائل والمواقف والأحداث مع مراعاة ما ذكره الشاطبي في كتاب الاعتصام، حيث قال: «إن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة». وهذه الكلمة من الشاطبي تدل على سبب من أسباب الأخطاء العلمية في المسائل الأصولية والفروعية.
ويتقرر مما سبق أن اتباع آثار النبي صلى الله عليه وسلم التي هي بمعنى سنته وأحاديثه وأيامه هي التي يتحقق بها الأمور الآتية:
أ - بها يحصل الإحياء الحقيقي لآثار النبي صلى الله عليه وسلم في شمائله وهديه وسمته، ولقد كان التابعون يتشبهون بصحب النبي صلى الله عليه وسلم لعلمهم أن صحابته رضي الله عنهم يهتدون بالنبي صلى الله عليه وسلم في شمائله وهديه حتى كان علقمة بن قيس النخعي عالِم الكوفة ومقرئها يشبَّه بصاحب رسول صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وعنه يقول رباح أبوالمثنى لما قال له أبوحمزة: أليس قد رأيت عبد الله؟ فقال: بلى، ثم قال: إذا رأيت علقمة فلا يضرك ألا ترى عبدالله. وعن الأعمش عن عمارة بن عمير قال: قال لنا أبو معمر: قوموا بنا إلى أشبه الناس بعبد الله هدياً ودلاً وسمتاً، فقمنا معه حتى جلسنا إلى علقمة.
ب - وبها يحصل الاقتداء والاهتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، والله تعالي يقول {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} الأحزاب (21) فلاحظ أن الأسوة به صلى الله عليه وسلم جاءت بوصف الرسالة كونه مبلِّغاً عن الله تعالى.
ج - وبها يحصل المقصود من الرسالة، وهو تحقيق العبودية لله تعالى لقوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} الذاريات (56)، ولا يعزب عن البال هنا أن الله تعالى نعت نبيه صلى الله عليه وسلم بالعبودية في أكمل الأحوال.
وهنا كلمة لا بُدَّ منها، لا يبتغى بها إلا وجه الله تعالى والدار الآخرة، والله المطلع، وأعوذ بالله أن أقول ما لا أعلم، وهي: إن هذه البلاد وهذه الجزيرة العربية منَّ الله تعالى عليها بقيام دولة آل سعود مناصرة لدعوة الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - وعلى مدار مراحلها الثلاث لا يعرف أن دولة قامت على الجزيرة العربية من بعد عصر النبوة والخلافة الراشدة كانت مثل هذه الدولة مناصرة للتوحيد وتحقيق العقيدة السلفية الصافية من لوثات البدع والخرافات، وشهد لها بذلك علماء الزهد والورع التقوى والتوحيد كما لا يخفى على المطلع على شهادات التاريخ، وإنَّ مما نشهده الآن في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - حفظه الله وأيده - هذه العناية التامة بالمشاعر والشعائر بحيث امتثلت لقول الله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} الحج (26)، وأُنفقت في سبيل ذلك المليارات دون أدنى تردد أو مراعاة للمصاريف، ولو كانت الدولة لغيرها - لا سمح الله - من دعاة الخرافة والبدعة لرأيت إهمال الحرمين وتعظيم المزارات والمشاهد؛ لأن دعاة الخرافة والبدعة لا ينفقون وإنما يستجلبون الأرزاق من وراء مزاراتهم ومشاهدهم كما هو مشاهد في كثير من البلدان، حتى قال حافظ إبراهيم شاعر النيل وهو الذي يستشعر - كما يقول بعض الباحثين - «البؤس والحرمان فيهوله ما يتدفق على (صناديق النذور) من أموال يتوزعها لا البائسون والمحتاجون، ولكن القائمون على (خدمة المقام) أو الضريح الذي يثوي فيه الولي، وفي ذلك يقول حافظ بحرارةٍ شديدةٍ»:
أحياؤنا لا يرزقون بدرهم
وبألف ألف ترزق الأموات
من لي بحظ النائمين بحفرةٍ
قامت على أحجارها الصلوات
يسعى الإمام لها ويجري حولها
بحر النذور وتقرأ الآيات
ويقال هذا القطب باب المصطفى
ووسيلة تقضى بها الحاجات
- الأمين العام لهيئة كبار العلماء.