مرة بعد أخرى يجيء ذكر التأمين الصحي على منسوبي الضمان الاجتماعي. وهذه المرة من ريشة الأستاذ إبراهيم الماجد في عموده المحبوب (من حديث المحبة) الذي نشرته صحيفتنا (الجزيرة)
بتاريخ 4 رجب 1434هـ، وكان يعبِّر فيه عن سروره بما وجده من نقلة نوعية في خدمات وزارة الشؤون الاجتماعية، وهو عزمها على منح جميع المستفيدين من الضمان الاجتماعي بطاقة التأمين الصحي. وأنا شخصياً لا أستغرب حدوث نقلة نوعية في خدمات هذه الوزارة - ما دام يقف وراءها نخبة من القياديين الأكفاء ودعم سخي من قيادة هذا البلد. استغرابي الآن - وما عبرت عنه سابقاً في مقالة بهذه الصحيفة بتاريخ 4-5-1434هـ تحت عنوان (الضمان الاجتماعي بين العمل الصحي الخيري والضمان الصحي) - ينصب فقط على كيفية المواءمة بين أمرين متماثلين ومتناقضين في الوقت نفسه. التماثل هو في كون المستفيدين من الضمان الاجتماعي يحصلون على الخدمة الصحية بدون مقابل - سواء قدمتها وزارة الصحة أو ضمنتها وزارة الشؤون الاجتماعية، فالجيب واحد هو جيب الحكومة. والتناقض هو في كون وزارة الشؤون الاجتماعية تتحمل تكاليف التأمين من أجل خدمات تقدمها وزارة الصحة مجاناً أي محاولة لفهم هذا التناقض تصطدم بعدم اليقين من دوافع اللجوء إلى التأمين الصحي على منسوبي الضمان الاجتماعي، وأيضاً من استطاعة بطاقة التأمين الصحي تحقيق توقعات الأستاذ الماجد (بأن هذا المواطن لن يحتاج بعد منحه هذه البطاقة أن ينشر معاناته أو أحد أفراد أسرته الصحية في صحيفة أو موقع إلكتروني حيث سيحصل على العلاج دون مَنٍّ أو أذى).
ما هي دوافع التأمين على منسوبي الضمان؟
ليس هناك إلا المزيد من التساؤلات:
1- هل فشل نظامنا الصحي في الانتشار بما يكفي لمد مظلة التغطية بالخدمات الصحية لتشمل جميع شرائح المجتمع السعودي، مما أحدث فراغاً صحياً في مناطق فقيرة نائية أو شرائح فقيرة في أطراف المدن أو أحياء شعبية مكتظة بالسكان وصارت الخدمات الصحية الخاصة أقرب لسكان أحياء المدن والتأمين الصحي يجعلها في متناولهم؟ ربما يدعم هذا الاحتمال أنه يوجد بالرياض مثلاً (500) مجمع طبي وعيادة خاصة وكذلك (1460) صيدلية خاصة، بينما لا يوجد إلا (85) مركزاً تابعاً لوزارة الصحة. ولكن عامل الانتشار هو في صالح القطاع الخاص في المدن، وليس في القرى والمناطق النائية. على أن سكان المدن الكبيرة في المملكة يمثلون الغالبية العظمى - حيث تمثل أكبر عشر مدن في المملكة حوالي 55% من السكان.
2- المراكز الصحية تقدم حتى الآن - وإلى أن يشملها التطوير - خدمات صحية محدودة، وخاصة في النواحي العلاجية. وربما يدعم هذا التقدير افتقار المراكز الصحية إلى العدد الكافي من الأطباء والمهنيين الصحيين المدربين تدريباً جيداً في طب الأسرة. ومجموع أطباء المراكز الصحية يزيد قليلاً عن ثمانية آلاف - أي ربع أطباء وزارة الصحة، يعملون في (2020) مركزاً.
المركز الواحد يخدم في المتوسط (13000) نسمة، فالطبيب الواحد يخدم أكثر من أربعة آلاف نسمة في المتوسط. وهذه المتوسطات ما هي إلا أرقام إحصائية لا تعكس التوزيع الفعلي. وكذلك الخدمات الطبية المساندة يختلف فيها المتوسط عن التوزيع الفعلي. عيادات الأسنان موجودة في 60% من المراكز، والأشعة في 33%، والمختبرات في 60%. (المصدر: الكتاب الإحصائي لوزارة الصحة لعام 1432هـ).
3- بعض الجوانب غير الطبية لها دور في النأي عن مراجعة المركز الصحي وتفضيل العيادة الخاصة ومن ثم التأمين الصحي؛ ومن ذلك توزيع وقت الدوام وعدم الالتزام التام بمواعيده وخاصة في بدايته ونهايته وقبل وبعد الصلوات مباشرة مما يسبب الازدحام والانتظار الطويل. المجمعات والعيادات الخاصة أطول دواماً وأقل ازدحاماً. ولا ينطبق ذلك طبعاً على الكل.
- أما فيما يخص المستشفيات فإن البعض يتصور أنها صعبة المنال بسبب إجراءات الإحالة والمواعيد (خاصة في حالة بعد المسافة)، إلى جانب إشغال أسرتها والتنافس على الأخصائيين بها بحيث يظن هذا البعض أنه لن يصل أو يحصل على الخدمة الصحية المطلوبة دون واسطة أو محسوبية أو الإصابة بحالة إسعافية؛ هذا بالإضافة إلى ضعف إمكانات المستشفيات الطرفية في المدن الصغيرة بخاصة. معدل الأسرة للسكان في المملكة منخفض (عموماً 2.1، وللوزارة 1.2 للألف من السكان). لكن معظم عبء العلاج يقع على مستشفيات وزارة الصحة- لاسيما خارج المدن الكبرى- لأن غيرها إما محدود القبول (كما في القطاعات الحكومية الأخرى) أو باهظ التكلفة (القطاع الخاص).
الاتجاه نحو التأمين الصحي:
من يتابع نشاط وزارة الشؤون الاجتماعية في خدمة منسوبي الضمان الاجتماعي يلاحظ أنها لا تكتفي بصرف مستحقاتهم المالية المباشرة بل تساعد في توفير أغراض السكن والاحتياجات المدرسية مثلاً، فلماذا لا تساعدهم في العلاج عندما يحتاجون إليه؟ وحيث لا يمكن من الناحية العملية أو الاجتماعية فتح عيادات خاصة بهم أو مستشفى، فإن النية اتجهت إلى التأمين الصحي لهم. وربما انصرف التفكير إلى أن هذا لا يتقاطع مع اختصاصات وزارة الصحة التي تتركز واجباتها في ضمان توفير وتقديم الخدمات الصحية الوقائية والعلاجية وليس تمويلها- والتأمين وسيلة تمويل كما يقول وزير الصحة نفسه.
وليست هذه سابقة أولى؛ فقد طرحت وزارة التربية والتعليم قبل حوالي خمسة عشر عاماً فكرة مشروع للتأمين الصحي، ثم أعقب ذلك دراسة مسحية أجرتها الخدمات الصحية المدرسية بين المعلمين والمعلمات أيدوا فيها التأمين الصحي لأنه - كما ذكر معظمهم- يمنحهم فرصة مراجعة القطاع الخاص. وغير هاتين الجهتين فإن جمعية المتقاعدين تتبنى المطالبة بالتأمين عليهم، حيث إن شركات التأمين لا تقبل التأمين عليهم إلا بأقساط باهظة لا تحتملها معاشاتهم التقاعدية.
من ذلك يظهر أن قطاعاً عريضاً من المجتمع السعودي يطالب بالتأمين الصحي، وإن كانت الدوافع قد تختلف. فإذا أضيف إلى هؤلاء وأولئك منسوبو القطاع الخاص السعوديون المشمولين بالضمان الصحي التعاوني، تصبح الإجابة المتوقعة على السؤال: هل نتجه للتأمين الصحي؟ هي الإيجاب والقبول.
جدوى بطاقة التأمين الصحي:
إذا قبلنا التوجه نحو التأمين الصحي فإن المسألة التي يجب بحثها هي: ما الذي ينتظره المطالبون بالتأمين الصحي، وما الذي يجب أن يعرفوه حقيقة عنه؟ وفي ضوء ذلك يتبين الأسلوب الأنسب لتطبيق التأمين الصحي؛ لأن النموذج ليس هو ما تطبقه كندا أو أستراليا أو ألمانيا أو النرويج أو ماليزيا، بل النموذج الذي يتوافق مع ثقافة المجتمع السعودي ويحقق أهداف النظام الصحي في النوعية الجيدة والتغطية الشاملة والحصول الميسر المضمون على الخدمة. المواطن عندنا تطلعاته عالية لا يكتفي بالحد الأدنى بل يريد الحد الأعلى. غير أن بطاقة التأمين الصحي - في حد ذاتها - ليست كمصباح علاء الدين، تستجيب لكل طلب، حتى لو اقتصر الترخيص على شركات التأمين الكبرى - كما يتمنى الأستاذ الماجد، وهو محق في ذلك- فهناك استثناءات لبعض الحالات الصحية وسقف سنوي أعلى للدفع وموافقات مسبقة قبل إجراء فحوص معينة أو التنويم، وهناك اشتراط مراجعة طبيب الرعاية الأولية أولاً، وهناك تفاوت في المنافع حسب درجة التأمين. فهل ستزيل بطاقة التأمين الصحي الواسطة والمحسوبية، وهل ستريح المرضى من المن والأذى؟ نعم، هذه البطاقة ستتيح الفرصة لمراجعة العيادات والمجمعات الخاصة، ولكن القطاع الخاص غير موجود في القرى والمناطق النائية، ولن يلهث راكضاً وراء منسوبي الضمان الاجتماعي في تلك البقاع. من أجل ذلك كله فإن التعجل بالتأمين على منسوبي الضمان الاجتماعي كفئة مستقلة ليست له جدوى كبيرة إلا في إطار تأمين صحي شامل لفئات المجتمع وفق النموذج الأصلح والأنسب لمجتمعنا، علماً أن التطبيق الشامل سوف يزيد من رقعة انتشار خدمات القطاع الصحي الخاص.
ما العمل إذن؟
إن هناك حلقة مفقودة في دراسة التأمين الصحي الشامل، حيث يدور الحديث عن دراسة النموذج الأمثل وتجارب الدول التي تطبقه. في رأيي أن ذلك يجب أن يكون مسبوقاً أو يستكمل بالخطوات التالية:
الأولى: أن تتبنى الدولة التوجه نحو التأمين الصحي من حيث المبدأ.
الثانية: استطلاع مختلف الآراء والتوجهات السائدة في المجتمع حول وضع الخدمات الصحية، ومبررات من يطالبون بالتأمين الصحي وما يتوقعونه من فوائد أو مزايا من جراء تطبيقه.
الثالثة: أن تعرض نتائج الاستطلاع وحصيلة تجارب بعض الدول في ندوة كبيرة يحضرها مواطنون ينتمون إلى فئات وطبقات مختلفة من المجتمع، حتى تتاح لأصحاب الشأن فرصة المشاركة والمناقشة.
الرابعة: في ضوء ما سبق يتم بحث النموذج الأكثر قبولاً والأرجح جدوى ليقوم بعد ذلك مجلس الضمان الصحي بإعداد مشروع يرفع للمقام السامي.