كتابة (السيرة الذاتية) أشبه ما تكون بالشعر أو النثر الأدبي لأن كاتبها يكتب عن إحساس صادق ويعبر عن مكنونات نفسه، فهو ليس كمن يكتب مقالة تخصصية في الطب أو الهندسة، أو النحو. هي أشبه ما تكون بكتابة قصيدة.. الشاعر فيها هو من يكتب سيرته الذاتية بعبارات تنبض بالصدق وتعبر عن الأحداث بالشواهد والأيام، يذكر فيها الحدث وتاريخ حدوثه وذكر أسماء من شهدوا الحدث أو عاصروه، وكثير منهم أحياء وحاضرون يشهدون على صحة ما ذكر أو دون.. وغالبا فإن كاتب السيرة يستطيع سرد الأحداث متسلسلة ولكن دون ربطها مع الأحداث والظروف المحيطة فتغدو مفككة لا يستطيع القارئ ربطها وتكوين سلسلة مفهومة منها، وهنا يأتي دور مخرج السيرة الذاتية أو معيد صياغتها بمنظور القارئ، أي صهر جميع الأحداث وسبكها وإعادة صبها مرة أخرى بشكل يفهمه القارئ ويربط بين أحداثها.
ومن أفضل كتاب السير الذاتية ومعيدي صياغتها الأستاذ محمد بن عبدالله السيف وهو مثقف لامع ومؤرخ ساطع نجمه في سماء الثقافة والسير الذاتية السعودية والذي أصدر مؤخرا كتاب (سيرتهم: صفحات من تاريخ الإدارة والاقتصاد في السعودية) وقد اعتمد في مادته على مقابلات صحفية أجراها مع عدد من رواد الإدارة والاقتصاد في السعودية، وكان قد أصدر قبل ذلك كتابه عن عبدالله الطريقي (صخور النفط ورمال السياسة) وإن كنت أرى أن يكون عنوان الكتاب بالعكس (رمال النفط وصخور السياسة) وذلك لأن النفط مصدر خير وعطاء وله لون واحد كلون الرمل الأصفر الذي يغطي صحارينا ويعطي منظرا جميلا، أما السياسة فلها ألوان كألوان الصخور فهي تتلون حسب البلد والمنطقة التي تتكون فيها فهناك الصخور الجرانيتية الصلبة، وهناك الصخور البازلتية، وهناك الصخور البركانية السوداء التي توجد في الحرات ذات أطراف حادة مدببة وكذلك هي دهاليز السياسة ودروبها وألوانها.
وتبدو إمكانات السيف ومهارته في كتاب (سيرتهم) في جمع الذكريات والأحداث ووضعها في قالب يناسب القارئ ومن ثم صبها مسبوكة كالذهب اللماع الذي يبهر الناظر إليه، وهنا تبدو مهارة كاتب السيرة من تحويلها من قوالب جامدة وأحداث منفردة إلى معلومات يستفيد منها القارئ؛ خذوا مثالا على ذلك، مقابلته مع الدكتور صالح العمير (نائب وزير المالية سابقا) حين حديثة عن سني الطفرة وضخ أموال هائلة للمشاريع بدون وجود بنى تحتية أو خدمات أدت إلى حدوث (التضخم) تعطي معلومة للقارئ تخلط بين التاريخ والاقتصاد ويفهم من خلالها معنى التضخم الذي لا يعرف إلا من خلال نظريات ومعادلات اقتصادية ولكن ربط الحدث بمثال حي وواقعي هو في حد ذاته من الذكريات تعطي للقارئ معلومة موثقة وواقعية.
وقد حشد السيف في كتابه هذا عددا من الشخصيات المؤثرة في مفاصل الاقتصاد والثقافة وهم:
1-عبدالرحمن السبيعي ودوره كتاجر في بناء وتأسيس الدولة ومواقفه مع موحد الجزيرة الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه (المولد والنشأة، وكالة بيت المال، من رسائل الإمام، من رسائل المليك والمؤسس، السبيعي في كتب التاريخ، السبيعي المثقف والأديب النابه، والدة السبيعي، وفاة عبدالرحمن السبيعي، قصر السبيعي في شقراء) وسأورد من هذا الكتاب نص رسالة الإمام عبدالرحمن والد الملك عبدالعزيز إلى السبيعي وهي تدل على بساطة الحاكم وسهولة لغته ومفرداته حيث يقول الإمام عبدالرحمن مستفسرا عن صحة السبيعي في رسالة مؤرخة في عام 1345 هجري (من عبدالرحمن بن فيصل إلى جناب المكرم الأحشم عبدالرحمن بن عبدالله السبيعي، سلمه الله تعالى. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. من طرف قل الصح الذي معك، إن شاء الله ما ترى مكروه. والسلام) 24محرم 1345هجري
2- عبداللطيف العيسى (من أقمشة الهند إلى وكالة جنرال موتورز)
(آل عيسى والنزوح إلى نجد، المولد والنشأة، موعد مع بزوغ النجم، الاستثمار في الأبناء، المصيف اللبناني، في المدرسة الأميرية، العودة إلى السعودية، بيروت في الستينات).
والعيسى نموذج لدور التجار في نهضة الاقتصاد المحلي الوطني وذكر مسيرته هي نموذج لأصحاب رؤوس الأموال لاستثمار أموالهم في الوطن، كما أنه نموذج للكادح الذي كون تجارته ومركزه التجاري بجهده الذهني والبدني.
3- منير العجلاني (يد في الثقافة وأخرى في السياسة).
(المولد والنشأة، السياسي المناضل، منير الصحافي، الأديب المثقف، المؤلف والمؤرخ)
ومنير العجلاني يختلف عن بقية شخصيات الكتاب بأنه ليس اقتصاديا ولا تاجرا وإنما مثقف بارع تولى رئاسة تحرير المجلة العربية وأسسها، وأورد طرفة وردت في هذا الفصل حيث يقول مؤلف الكتاب (روى لي الدكتور محمد عبده يماني حادثة طريفة أثناء مباحثات وحوار الأديان في أوروبا، وهي أن جميع أعضاء الوفد السعودي كانوا يرتدون الغترة البيضاء ماعدا عبدالعزيز المسند الذي كان يرتدي الغترة الحمراء (الشماغ) وهذا الأمر لفت أنظار القائمين على ترتيب الحوار، فسألوا يماني عن السبب الذي جعل المسند متميزا عن بقية أعضاء الوفد، فقال لهم يماني إن المسند في الوفد السعودي بمنزلة (كاردنال) أما البقية فهم بمنزلة (مطارنة)).
وقد ذكر الدكتور غازي القصيبي في كتابه (الوزير المرافق) شيئا مشابها لذلك إذ قال في موضوع بعنوان (مع المستشار الذي جاء من الأرياف) ويقصد بذلك المستشار الألماني الغربي هلموت كول ما يلي: (خلال مرافقتي لكول في تنقلاته كنت دائم الحديث معه كان في البداية متحفظا ولا يتحدث إلا بحساب إلا أنه بدا تدريجيا في التبسط والانطلاق على سجيته. خلال ذهابنا إلى جلسة المفاوضات فاجأني بقوله:
- لدي سؤال أرجو أن تجيبني عليه بكل صراحة، وتوقعت أن يثار موضوع الدبابات من جديد. إلا أن السؤال كان أبسط بكثير:
- لماذا يرتدي بعضكم رداء أحمر للرأس بينما يرتدي البعض رداء أبيض؟ هل هذا يدل على مكانة الشخص؟ لقد لاحظت مثلا أن كل الأمراء باستثناء الأمير سعود الفيصل يرتدون الرداء الأبيض؟
وشرحت له أن الأمر يتعلق بالذوق الشخصي ولا علاقة له من قريب أو بعيد بموضوع المكانة).
قلت وهذا يستوجب نشر بحث عن الغترة والشماغ، وإلزام كل ممثلي المملكة وسفاراتها بارتداء الغترة والشماغ.
4- عبدالعزيز التويجري (محطات في سيرته الكبرى)
(في وهاد ومرتفعات المجمعة وسدير، إلى المجمعة مرة ثانية، إلى عسير، رئاسة بيت المال، حوار الثقافة، إلى الحرس الوطني، التويجري مؤلفا ومؤرخا، التويجري الإنسان).
ولاشك أن التويجري يتميز عن جميع من تسنموا ذرى المسؤولية بأنه أديب بارع، ومؤلف لا يشق له غبار يدل على ذلك مؤلفاته الأدبية وكتبه التي يطالعها قارئ المكتبة العربية.
5- صالح العمير (من موظف في مالية جازان إلى مهندس موازنة الدولة)
(البكيرية، إلى جازان، مع محمد بن مانع في جامعة الملك سعود، الدوام بالزي الإفرنجي، هندسة الميزانية، التنمية غير المتوازنة، الاستثمار في الاحتياط، بدائل عن النفط، الزراعة في الثمانينات، جسر الملك فهد، الطريقي والمنقور، مجلس الشورى، العمير مثقفا)
وتبدو براعة المؤلف في هذا الفصل في وضع عناوين وأجزاء لكل موضوع بدلا من السرد، وذكر الظروف المالية والاقتصادية في هذه الفترة .
6- محمد الطويل (من معقب في إمارة الرياض إلى مشرف على تدريب موظفي الدولة)
(شقراء وسنوات الطفولة، إلى الرياض، مبكرا نحو العمل الحكومي، حرب الامتحانات وحرب67، إلى المعترك الحقيقي، مع الشيخ ابن باز، الخروج من المعهد)
وفي هذا الجزء نشر السيف (بكل ديموقراطية) آراء الآخرين الذين انتقدوا الطويل وما جاء في مذكراته، والذين عملوا معه في معهد الإدارة العامة.
وأخيرا فإنني أتمنى أن يتحفنا السيف بسيرة ومذكرات عدد من العلماء، والمسؤولين، ورجال الدولة كما هو نهجه المتميز، مع علمي بصعوبة الحصول على المعلومات، وممانعة الكثيرين في الحديث عن السيرة الخاصة بهم لأنهم يعتبرونها شيئا لا علاقة للآخرين به، ولكن خبرة السيف في توليه هو كتابة السيرة بعد استخلاص عناوينها من المعنيين، فإنني أطلب من السيف كتابة سير لبعض الرجال ومنهم (على سبيل المثال):
1- الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله..
أول مفتي (للديار النجدية) وهو عالم له دوره البارز في نشر العلم وتثقيف العامة، وهو ظاهرة تستحق الإعجاب والتقدير لدوره في الشأن العام ولم يقتصر دوره على الإفتاء فقط بل تعداه إلى التأثير على الحياة الثقافية والتعليمية من خلال فتح المعاهد العلمية التي أصبحت مشاعل للعلم والتعليم في الديار السعودية في بداية عهد التعليم فيها.
2- معالي الشيخ محمد النويصر رحمه الله..
هذا الرجل عاصر ملوك البلاد إبان عصور بنائها وكان قريبا من أصحاب القرار فيها فقد عمل رئيسا للديوان الملكي ورئيسا لديوان رئاسة مجلس الوزراء في عهد الملك فيصل والملك خالد والملك فهد رحمهم الله وكان شاهد عيان على عصر البناء، وكان مقلا مع الإعلام وبعيدا عن الأضواء.
3- معالي الشيخ محمد أباالخيل..
والذي تولى أهم الوزارات التي ترتبط بكل مشاريع التنمية وهي وزارة المالية إبان عهد الطفرة الأولى في عهد الملك خالد والملك فهد رحمهم الله تعالى وما شهدته من مشاريع بناء كبرى.
4-معالي الدكتور ناصر السلوم وزير المواصلات سابقا..
نستطيع أن نطلق على الدكتور ناصر السلوم لقب (باني الطرق) فقد كان مخططا بارعا ومهندسا حاذقا تولى مهام وزارة النقل في فترة الشح المالي وتولى وكالتها في سني الطفرة فترك بصمة واضحة على تنفيذ الطرق بمواصفات عالمية عالية وكان مدرسة للمخططين والمنفذين بإدارته الهندسية الفنية الاقتصادية المتميزة، وقراءة سيرته ستكون مدرسة للمهندسين والفنيين من بعده ومن يتولون بناء شرايين التنمية وهي الطرق .
وغير هؤلاء لا شك الكثيرون والسيف لديه خبرة ودراية في البحث والاستقصاء عنهم.
Arac433@hotmail.com