قال أبو عبدالرحمن: هذه المسألة الجزئية على أهميتها في نفسها: تُنتجُ أصلاً ركيناً في فَهم كل كلام مركّب حسب اليقينيّ أو الرُّجحاني من مُراد المتكلم، فلا يضيع المراد بين الأوجه الصحيحة العامة في لغة العرب، فليس كل وجهٍ صحيح في لغة العرب يكون مراداً للمتكلم، بل لا بد أن يكون
مراد المتكلم إذا كان يقينياً أو رجحانياً قائماً على معنى لغوي صحيح واحد من دون افتراض وجوهٍ أخرى صحيحة لغة لم يقم برهانٌ على أن المتكلم أرادها.. وأسوأُ من هذا الشتات أن تكون تلك الأوجهُ غير صحيحة في لغة العرب: إما لأنها لم تثبت نقلاً من استقراء لغتهم، وإما لأنها فهمٌ خاطئٌ للأدبيات، المستقرأة من لغتهم، وإما لأنها اقتراح عالمٍ من علماء العربية ويكون اقتراحه يفتقر إلى استعمال محفوظ عن العرب.. وهذه اليقظة هي (الألسنية الظاهرية) التي اعتمدها في فهم النصوص من غير افتراء على اللغة، أو إسقاط لها، أو تعويم النص بوجوهٍ لغوية صحيحة في نفسها ولكن لوائح البرهان من السياق تقول: (إن مراد المتكلم وجهٌ واحد متعيَّنٌ من تلك الوجوه).
ومسألتي هذه نموذج حيٌّ للأوشاب التي ضيّعت المراد الجليّ، وجعلته في لَبْسٍ مع أن النص من كلام الله الميسّر للذكر واضح المراد من السياق بجلاء، وذلك في قوله تعالى عن شأن قارون {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلاَ أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (82 سورة القصص).
قال أبو عبدالرحمن: خوضُ العلماء في الاحتمالات حول فهم (وَيْكَأنَّهُ) يُصيب الباحث الجاد بالدُّوار منذ قتادة وجيله.. إلى أبي عبيدة معمر بن المثنى والفراء وسيبويه (عن شيخه الخليل بن أحمد) وابن قتية وأبي الحسن الأخفش.. إلى ابن جرير والزجاج والنحاس والسيرافي وابن جني.. إلى الزمخشري والأنباري والعكبري والمنتجب الهمذاني.. إلى أبي حيان والسمين وابن هشام.. إلى خالد الأزهري.. إلى ترجيحات بعض المتأخرين رحمنا الله جميعاً، وأكثر مَهَرة هذه الأجيال لا تُرجح، أو لا تستوفي مقومات الترجيح من تأسيس البرهان واستيفاء براهين الدفع والمعارضة، فإذا بُليتَ بهذه العقبات الحائلة دون فهم المراد من النص: فحقِّقْ أولاً معنى النص من السياق بعيداً عن جدل النحو واحتمالاته، ثم نزّله على الوجه الصحيح من معاني لغة العرب نحواً وبلاغة ومعنى مادةٍ ومعنى صيغة، وبهذا تكون خدمت نفسك، ونهَجْتَ لها سبيل الفهم.. فإن أردتَ التطوّع، وخدمة غيرك بدفع ما يعكّر عليه من تأصيلات العلماء واحتمالاتهم: فبيّن بالبراهين ما تمتنع إرادته من الاحتمالات الصحيحة في نفسها، وما يمتنع احتمال صحته.. وحسبي ههنا - بما يليق بمساحة خميسيّتي- أن أظهر المراد من السياق بما يفهمُ تقدير الكلام فيه متوسط الثقافة ومداركُ العاميَّ الذكي، ثم في خميسيَّتي عن (الألسنية الظاهرية) أنزّل معنى السياق على المعنى الصحيح المتعيِّن من الأوجه الصحيحة الكثيرة في لغة العرب.
قال أبو عبدالرحمن: نعلم أن قارون لعنه الله من قوم موسى عليه السلام.. أي ينتسب إلى بني إسرائيل قوم موسى، وليس من قومه في الدين، بل من قوم فرعون في الكفر لا النسب، فكفر قبل إرسال موسى عليه السلام بما عليه دين أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام، فلم يتمسك بدينهم، بل بغى على قومه، وصار من قوم فرعون من أجل حظوة الدنيا والنجاة من ظلم فرعون إياهم.. ولا يجوز قصرُ بَغْيِ فرعون في قوله تعالى {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} (76 سورة القصص) على معانٍ ليس في طليعتها الكفر والعدوان.. والبرهان على ذلك قوله تعالى {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ. إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ. فَلَمَّا جَاءهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلاَلٍ} (23- 25 سورة غافر).. كما أن الله خسف به إذ خرج على قومه -وهم كما مضى قوم فرعون- في زينته، فالخسف به قبل إغراق الله فرعون وجنوده، ومع هذا لم يتَّعظوا.. وقد جاء سياق النص من القرآن الكريم على هذا الترتيب، فذكر الله تتابع هلاك الهالكين، فكان من ضمن السياق {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ. فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (39-40 سورة العنكبوت).. وفي أتباع موسى عليه السلام من المؤمنين به من استحلى مكان قارون من المال والقوة لمَّا خرج في زينته، فقالوا كما قصَّ الله عنهم {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (79 سورة القصص)، فلما خسف الله به وبداره قال الذين تمنوا مكانه بالأمس (وَيْ)، وهي حكاية صوتٍ يظهر تلقائياً للعجب المفاجئ (الدهشة)، فلما ارتبطت دهشتهم بشأنهم السابق قبل أن يخسف الله به، وذلك بالكلمة المركبة من ثلاث كلماتهي (ويْ)، والكاف، و(أنه) مع ضمير الشأن: كان العجب شاملاً الدهشة المفاجئة وحالهم في التمني قبل الخسف مع أنهم ما رغبوا كفر فرعون لأنهم مؤمنون.. وحالهم وشأنهم قبل الخسف هو غياب علمهم - على الرغم من إيمانهم - بأن ما يتمتّع به الكافر من المال والقوة والخدم (كما ههنا: عصبةٍ من الرجال الأقوياء يعجزون عن حمل مفاتح خزائنه) ليس مما ينبغي تمنّيه، وبأن لله حكمة في قدْره الرزق لمن يشاء من عباده رفقاً بهم أن يبغوا في الأرض بغير الحق، وبأن لله حكمة في بسطه الرزق لمن يشاء من عباده، وبأن بسط الرزق للكافر مع بَغْيه آيةُ هلاك لا فلاح، فكان تقدير الكلام في (وَيْكَأنَّهُ): وقوعُ الخسف بقارون على قوته وكثرة ماله أظهر لنا العجب من حالنا وشأننا من غياب علمنا بحكمة الله في بسطه الرزق وقدره لمن يشاء، وغياب علمنا بأن الكافر لا يفلح، وتمنَّينا ما لا يتفق مع إيماننا.. وأما تحسرهم على ما بدر منهم من التمني فليس من دلالة (وَيْكَأنَّهُ)، ولكنه من سياق قوله الذي قصه الله تعالى بقوله {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (82 سورة القصص)، إذ فرحوا بضدِّ ما تمنوه سابقاً، وفرحوا بمنة الله عليهم، وذلك بطريق الضدية، فأظهر السياق ما لا احتمال فيه ألبتة من دلالة (وي) والكاف، وضمير الشأن في (كَأَنَّهُ).. وليس في لغة العرب (وَيْكَأَنَّ) كلمةٌ واحدة حروفها أصلية ذات معنى، ومن زعم ذلك فقد افترى على لغة العرب.. وأما وصلها كتابة في المصحف الإمام، ووصلها تِلاوة عند بعض القراء فلا أثر له في كونها من حكايةِ صوتٍ، وكاف تشبيه، وضمير شأن.. وما أملح كلمة الإمام ابن كثير.. قال رحمه الله تعالى “والكتابة أمر وضعي اصطلاحي، والمرجع إلى اللفظ العربي”.
قال أبو عبدالرحمن: كتابة المصحف الإمام قبل نُضْجِ الرسم الإملائي، وكتابة (وَيْكَأَنَّ) كلمة واحدة مبيحٌ الوصلَ في القراءة مع جواز الفصل بمقتضى لغة العرب في كون (وي) كلمة مستقلة، وهي في الاصطلاح النحوي (اسم فعل)، لأن حكاية الصوت ههنا حكاية لمعنى أعجب وأندهش.. والوصل والفصل لا يُغيّر شيئاً من بنية الكلمة، بل الوصل تلاوة أدلُّ على المعنى، ليقترن حال العجب بما وقع من الخسف بالعجب من حالهم وشأنهم في التمني قبل الخسف، وإلى لقاء إن شاء الله مع (شيئ من الألسنية الظاهرية) تُلامس فروع هذه المسألة بوضوح، وهي منهج مُؤَصَّل راسخ حاسم في معاناة فهم كلام الخالق جل جلاله، وفهم كلام المخلوقين، والله المستعان، وعليه الاتكال.
- عفا الله عنه -