إن الرؤية الشخصية لصانع السياسة أو الخبير الإستراتيجي تتضمن نظرة موضوعية للبيئة الحالية، وتقويما مسبقا لنتائج الاستمرارية والتغيير داخل هذه البيئة، بصورة تضمن ازدهار بلاده في المستقبل.
ويعتبر الخبير الإستراتيجي بأن المستقبل لا يمكن التنبؤ يه، ولكنه على يقين أنه يمكن التأثير فيه وتشكيل ملامحه للوصول إلى نتائج أفضل.
وإذا قلنا إن الإستراتيجية لصيقة المستقبل فلأنها تعنى بها وتحاول تجنب أو ردع أو حل المشكلات المستقبلية الممكنة، وهذا هو عمل الاستراتيجي وشغله الشاغل...
ويمكن فهم الإستراتيجية على أنها “فن” و”علم” تطوير واستخدام القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية - السيكولوجية والعسكرية للدولة المعنية بصورة منسجمة مع توجيهات السياسة المعتمَدة، لخلق تأثيرات ومجموعة ظروف تقوي السياسات الداخلية أيا كانت تعليمية أو اقتصادية أو مالية أو تنموية، كما أنها تحمي المصالح القومية وتعززها مقابل الدول الأخرى، أو الأطراف الفاعلة الأخرى أو الظروف والمستجدات. وتسعى الإستراتيجية إلى إيجاد التآزر والتناسق والتكامل بين الأهداف، والطرائق، والموارد، لزيادة احتمالية نجاح السياسة، والنتائج الإيجابية التي تنجم عن ذلك النجاح. فهي عملية تسعى إلى تطبيق درجة عالية من العقلانية والاتساق لمواجهة ظروف قد تحدث وقد لا تحدث. وعلى رغم تعقيدات هذه المهمة، فإن الإستراتيجية تحققها من خلال عرض مبرراتها ومنطقها في مصطلحات عقلانية ومتسقة، يمكن وصفها ببساطة بأنها غايات وطرائق ووسائل. وأفضل طريقة لفهم الإستراتيجية هي وصفها بأنها دليل سياسي لبلوغ الوضع المنشود.
إن صياغة الإستراتيجية تجمع بين الفن والعلم. ومن زاوية كونها فنا، يمكن تفسير صياغة الإستراتيجية على أنها ساحة للعبقريات النادرة، حيث يتواصل القادة الموهوبون بفعل حدسهم إلى حلول عظيمة لقضايا معقدة بشأن السياسة والدبلوماسية والاقتصاد وهلم جرا.
ولا يمكن إنكار دور العبقري الحقيقي، ولكن ليس هناك سوى دول قليلة في البيئة الدولية الحالية التي تتسم بالدينامية تستطيع تحمل عواقب الانتظار إلى حين وصول عبقري يعول عليه. ويمكن أن يطمئن العدد الأكبر من محترفي هاته الأمور لحقيقة كون الإستراتيجية هو علم أيضا. وهذه الحقيقة توحي أن صياغة الإستراتيجية يمكن أن تراقب، وتكتب عنها النظريات، ويمكن أن يتم تحسين مستوى تطبيقها من خلال الدراسة والخبرة. وبالفعل هناك مؤلفون بارزون ومشاهير كثر مثل صن تزو، وكارل فون كلاوزفيتر، وكولن جراي، اعترفوا بأهمية الفن والعبقرية في صياغة الإستراتيجية، وقدموا الهيكل النظري والملاحظات التي تساعد على فهم أفضل لممارسة صياغة الإستراتيجية.
المهم أن تكون من بين أهداف الإستراتيجي التنظير الذي يمكن أن يساعدنا بها على توسيع وتنظيم تفكيرنا؛ وأستحضر هنا كلمات كلوزفير عندما يكتب عن النظرية من حيث إنها يجب أن تكون مخصصة للدراسة وليس لتبنيها من حيث هي عقيدة؛ آنذاك تصبح النظرية دليلاً لكل شخص يريد أن يتعلم (.....) من خلال الكتب؛ فهي تنير طريقه، وتسهل تقدمه، وتدربه على الحكم السليم؛ وتساعده على تجنب المأزق..... تكون النظرية بحيث لا يحتاج المرء إلى البدء من جديد كل مرة للتعرف على المسألة وتحليل تفاصيلها، بل يجدها جاهزة بين يديه، ووفق ترتيب جديد. والغاية منها تدريب عقل المرشح ليكون قائدا في المستقبل.
فالإستراتيجية علم وفن تستلزم من صاحبها الإلمام بكل التفاصيل الموجودة فوق الحشائش وتحت الحشائش، وتفاصيل العالم الحديث واختلافاته خاصة إذا أخضعت المسألة إلى عملية مؤسساتية أو حوار فكري وطني بل وعالمي وهي مسألة شديدة الأهمية ولكن لها نتائج لا يمكن أن توصف.
إن أهم ما يسعى إليه الخبير الإستراتيجي، كما يكتب الخبير هاري ار يارغر هو حماية مصالح الدولة وتعزيزها داخل البيئة الإستراتيجية عبر إيجاد تأثيرات متعددة المستويات والمراحل. وتبعا لذلك فإن نموذج الإستراتيجية نموذج بسيط، وهو عبارة عن غايات وطرائق ووسائل، ولكن طبيعة البيئة الإستراتيجية، تجعله صعب التطبيق. ولكي يكون الإستراتيجي ناجحا عليه أن يفهم طبيعة البيئة الإستراتيجية، ويبني إستراتيجية تتسق مع هذه البيئة، بحيث لا يُغفل طبيعتها ولا يستسلم للأطراف الأخرى أو للمصادفة. وقد وصفت طبيعة البيئة الإستراتيجية مرات عدة ومن قبل سلطات مختلفة: ويُشار إلى هذه البيئة في منشورات وثقافة كلية الحرب الأمريكية باختصار مكون من أربعة أحرف (VUCA) وهذا يتضمن الوصف التالي: نظام عالمي حافل بتهديدات كثيرة ومثيرة للشكوك، والصراع متأصل فيه وغير قابل للتنبؤ. وفي هذا العالم تكون قدراتنا للدفاع عن مصالحنا الوطنية وتعزيزها مقيدة بقيود مرتبطة بحجم الموارد المادية والبشرية. وباختصار، هذه البيئة تتسم بالتقلب والتوجس والتعقيد والغموض (VUCA).
إذن فالبيئة الإستراتيجية تتسم بأربع سمات: التقلب، والتوجس، والتعقيد، والغموض. وهي دائما في حالة عدم استقرار أو “فوضى” دينامية وذات تأثيرات متداخل بعضها مع بعض. ودور الإستراتيجي هو ممارسة النفوذ للسيطرة على التقلب، وإدارة الهواجس، وتبسيط التعقيدات، وكشف الغموض، وكل ذلك يجب أن يتم وفق شروط وظروف ملائمة لمصالح الدولة ومنسجمة مع توجيهات سياستها العليا.
إن التفكير في سمات البيئة: التقلب، والتوجس، والتعقيد، والغموض (VUCA) يوحي بأن البيئة الإستراتيجية متقلبة. وهي عرضة لردود أفعال وتغيرات سريعة ومتفجرة، وغالبا ما تتسم بالعنف. كما أن التوجس أو الشك من سمات هذه البيئة، وهو بطبيعته مثير للإشكاليات وغير مستقر. وهناك قضايا جديدة تظهر، ومشكلات قديمة تعاود الظهور، أو تكشف عن نفسها بطرائق جديدة، بحيث تصبح الحلول ملتبسة. إن الإستراتيجية تخدم الدولة على أفضل وجه عندما تستبق التغيير وتقوده. والإستراتيجيات الوقائية أو الاستباقية، أو الإستراتيجيات الكبرى الموضحة بشكل جيد، غالبا ما يتم تجاهلها من جانب مجتمع الخبراء الإستراتيجيين، نظرا لأنهم يفضلون صيانة الاستقرار على المدى القريب، وتجنب المخاطرة السياسية. وعندما يتخلخل التوازن الإستراتيجي بطريقة فادحة، ويشار إلى هذه الحالة في نظرية الفوضى بمصطلح “التفرع المحتمل”، فإن التغيرات العديدة والسريعة والمعقدة تتطلب إستراتيجية أكثر قدرة على الرد.
في مجال الإستراتيجية، لابد للإستراتيجي أن يفهم الفرق بين الإستراتيجية والتخطيط لكي يقوم بصياغة إستراتيجية جيدة؛ ولابد للمخطط أن يفهم أوجه الاختلاف بين التخطيط والإستراتيجية لكي ينفذ الإستراتيجية بنجاح تام. والتخطيط ضرورة لتنفيذ الإستراتيجية ولكن عقلية المخطط يجب أن تكون مختلفة عن عقلية صانع الإستراتيجية. وفي مادة العلاقات الدولية والإستراتيجية التي تدرس لمن تبحر سنوات في هذا العلم الإنساني الدقيق، هناك إجماع على أنه يجب على محترفي الأمن القومي أن يكونوا مدربين على ضرورة التيقن في التخطيط من خلال معطيات حياتهم المهنية خلافا لمجال الإستراتيجية المبنية على بعد نظر في بيئة معقدة ويطبعها الشك وعدم اليقين؛ وعلى المخطط أن يكون نيوتونيا وعلميا في مقارباته ومفاهيمه وتطبيقاته بينما على الإستراتيجي أن يكون أكثر ضبابية؛ وإذا قام المخطط أثناء التنفيذ بشبك مفاهيمه مع تلك المتعلقة بالإستراتيجي (مع أن الخطة هي ناجحة) فإن التأثيرات الإستراتيجية الناجمة في دعم مثل هذا التصور قد تفشل وقد يكون لها مفعول عكسي.
وعلى المفكر الإستراتيجي أن يكون صاحب قدرة كبيرة على تطبيق نظرية الإستراتيجية في العالم الواقعي وإن يجمع بين مجالي الفن والعلم وضرورة خلق توليفة تجمع حسابات التقلب والتوجس والتعقيد والغموض التي تطبع البيئة الدولية الحالية أو لنقل البيئة الإستراتيجية.