في المقال السابق تحدثت عن شخصية الأمير سلمان بن عبد العزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع - حفظه الله - بأنه رجل التاريخ، ووجّه بتوثيق مدينة (يثرب) المدينة المنورة التي شع منها نور الإسلام إلى أركان العالم على اعتبار أن هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة (البيت العتيق) إلى (يثرب) كان هدفه الأول انطلاق رسالة الإسلام من هذه المدينة المشرقة متابعاً الدعوة الإسلامية التي حمله الله إياها لخير البشرية، وتاريخها حافل بالعطاء.
إن تلك الإشارة المهمة قد تحدثت عنها كتب السلف الصالح من صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام، التي توثقت لكل مسلم للاستنارة بها في حياته العملية لهذا الدين القويم.
لقد أكدت تلك الكتب الموثقة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد سأل ربه من خلال ملازمته للبيت العتيق للصلاة والعبادة مخرَجاً من أمره بسبب معارضة قبائل قريش المشركة بالله تعالى بعد أن بلغ الرسول عليه الصلاة والسلام ما يثبت قريش لقتله مخافة هجرته إلى المدينة المنورة.
ونزل الوحي الإلهي جبريل عليه السلام على رسول الله ليبلغه بالهجرة من مكة، وأبلغه الآية الكريمة {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّه وَاللّه خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (30) سورة الأنفال.
وفي سنة 622م هاجر رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى (يثرب)؛ إذ وقف أهاليها إلى جانبه، ونصروه بعد أن آمنوا بالشريعة الإسلامية، وكان الاستقبال لرسول الله عظيماً؛ إذ خرج أهل المدينة زرافات ووحداناً، رجالاً ونساء بعد الذي ترامى إليهم من أخبار هجرته، وخرجوا يثيرهم تطلعهم لما انتشر من خبر دعوته من قبائل الجزيرة العربية وغيرهم. ولم يكن المشركون ولا اليهود أقل إقبالاً من المسلمين في استقبال رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم معلنين انضمامهم لهذا الدين الحنيف. وجاء الرسول الكريم إلى يثرب فاتحاً لعقيدة السماء لتوحيد الله تعالى، والنظر إلى خالق الكون.
والحقيقة كان همّ رسول الله تحقيق أمر الله تعالى لنشر هذه الرسالة التي عهد الله إليه تبليغها، والدعوة إليها، والإنذار بها؛ حتى لا يظلم أحد بسبب عقيدته أو رأيه، وتحققت الإرادة الإلهية للجميع لأن يستضيئوا بوحي السماء، وأن يحصلوا على رضوان الله تعالى، وأن يحققوا الحكمة العليا في خلق الإنسان ووجوده على هذه الأرض؛ لأن الحياة قامت في سبيل العطاء.
لقد آمن الجميع بأن شريعة الله في الإسلام هي: دين الأمان في الحياة وتحقيق السلام بين الإنسانية، إنها دين عالمي، جاء للناس عامة، إنها تدعو للصدق والحق والعدل، وتحفظ المواثيق والعهود، وتدعو إلى الإيمان بالله تعالى وبرسله وبرسالات السماء، وتؤكد في قوله تعالى: {إِنَّ هَذِه أُمَّتُكُمْ أُمَّة وَاحِدَة وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (92) سورة الأنبياء.
ويروي الأستاذ الصحفي القدير محمد علي الحافظ ابن مدينة (يثرب) في مؤلفه (فصول عن تاريخ المدينة المنورة) استناداً لمصادر أكيدة من سليمان بن عبد الله بن حنظلة الغسيل ومن رجل من قريش عن أبي عبيدة بن عبد الله بن عمار بن ياسر قالا: «بلغنا أن موسى عليه السلام لما حج حج معه أناس من بني إسرائيل، فأتوا المدينة في انصرافهم، فرأوا صفة بلد نبي يجدون وصفه في التوراة بأنه خاتم النبيين، فنزلت طائفة منهم في موضع سوق قينقاع (ومنازل بني قينقاع كانت عند منهى جسر بطحان وهناك كان سوقهم)».
وقال حافظ: «إن أول من سكن المدينة (يثرب) بعد الطوفان قائنة بن مهلابيل ابن عبيل، وينتهي نسبه إلى نوح عليه السلام». وذكر أن قائنة أول من عمر الدور والأطام، وغرس وزرع فيها العماليق بنو عملاق بن أرفخشذ بن سام، وكان منهم بنو هيف وبنو مطروبل. وللمدينة المنورة 95 اسماً، منها: طابة، طيبة، العاصمة، قرية الأنصار، قبة الإسلام، قلب الإيمان، المباركة، المختارة، مدينة الرسول، المسلمة المحببة، دار الإيمان، حرم رسول الله، دار الأبرار، دار الأخيار، دار السنة، دار السلام، آكلة البلدان، البارة، الجايرة.
وبعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليثرب صارت المدينة معقلاً للإسلام وقلعة حصينة له ومشعلاً ينبع منه نوره على الآفاق، وانتشر الإسلام منها إلى كل الدنيا، وصارت جيوش الإسلام تتجه شرقاً وشمالاً وغرباً وجنوباً، تدعو إلى الله، وتنشر دينه القويم، وتوطد أركان الإسلام في الكرة الأرضية.
لقد بشرت برسول الله عليه الصلاة والسلام الأنبياء قبله، وأتباع الأنبياء يعلمون ذلك، وتناهت النبوة إلى آخر أنبياء بني إسرائيل، وهو عيسى بن مريم عليه السلام، وقام بهذه البشارة في بني إسرائيل، وقص الله خبره في قوله: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّه إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَي مِنَ التَّوْرَاة وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُه أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} (6) سورة الصف.
وكانت الخطوة التي قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ذي القعدة من سنة ست للهجرة محرماً بالعمرة ليأمن الناس من القتال، وخرج زائراً للبيت العتيق ومعظماً له ومعه ألف وأربع مئة من الصحابة والأنصار من المسلمين، وبعد سجال طويل ومناقشات بليغة تم وضع اتفاق للصلح بين رسول الله وقبائل قريش من حرص الجانبين على نجاح المفاوضات، واصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيهن الناس، ويكف بعضهم عن بعض، وكان صلح الحديبية المرحلة الثانية للبُعد الإسلامي، ولخدمة البشرية عامة، ولحماية المسلمين وتأديتهم الركن الخامس للإسلام (الحج)؛ لأن كرامة الإنسان المسلم تتلخص في كلمة أساسية واحدة، هي عقيدته، وهي أثمن عند من يقدر معنى الإنسانية، والعقيدة هي هذه المرحلة المعنوية بين الإنسان وأخيه الإنسان، والصلة الروحية بين الإنسان وخالقه الواحد لا شريك له، وهذا ما يجعل الإنسان يحب لأخيه الإنسان ما يحب لنفسه.
فالإسلام ليس دين وهم وخيال، إنه دين الفطرة التي فُطر الناس جميعاً عليها أفراداً وجماعات، إنه دين الحق والنظام بين المجتمعات والحرية بين الأفراد والمجتمع.
لذلك كان صلح الحديبية بين المسلمين وأشراف قريش إشارة واضحة من رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم لأن يقوم بين المسلمين أنفسهم والديانات السماوية الأخرى، باعتبارهم من أهل كتاب، حوارات حضارية للتأكيد على وحدة الإنسانية في المجتمعات؛ ولهذا كان وفاء صحابة رسول الله وعظيم محبتهم وبيعتهم لنبي الإسلام وقفة إعجاب وصدق ووفاء وإيمانهم الكامل برسالته السماوية.
ومهد صلح الحديبية لأن يزداد الإسلام انتشاراً بين أبناء الجزيرة العربية، وهذا ما كان يدعو إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن تنتشر الشريعة الإسلامية سلماً عن طرق الحوار البناء مع الديانات الأخرى؛ لأنهم أهل كتاب، وكانت تلك الخطوة الجليلة التي قام بها رسول الله مع أشراف قريش بمنزلة وضع حجر ثابت ودقة سياسية ساعدت على انتشار الإسلام في أجزاء عديدة من العالم.
قال الزهري: فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم من فتح مكة بعد صلح الحديبية؛ إذ التقى الناس، ووضعت الحرب أوزارها، وأمن الناس بعضهم بعضاً، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة بينهم، فلم يكلم أحد بالإسلام يقبل شيئاً إلا دخل فيه.
وقال ابن هشام: والدليل على قول الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربع مئة، ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف.
وقال البخاري في صحيحه: لذلك أن الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام إنما يختص بهم أكمل النوع في خلقهم وأخلاقهم وحكمتهم في دعوتهم للعقيدة والدين الإلهي الواحد في قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (110) سورة آل عمران.
ويمكن القول: إن سورة الفتح هي التي أنارت الطريق لانتشار الإسلام والدعوة إلى الله سلماً، وحققت النصر بعد النصر لرسول الله عليه الصلاة والسلام؛ ليتابع خطواته الثابتة كما أمره الله تعالى؛ لتعم رسالة الإسلام السماوية في داخل الجزيرة العربية، ثم لينطلق بها إلى شمال وجنوب الجزيرة، ثم إلى الدول المحيطة بها شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، التي كان يحكمها ملوك النصارى والمجوسية بعد الرسائل التي بعث بها رسول الله لهؤلاء الملوك الذين كانوا يعادون رسالة الإسلام في محاولة لقطع الطريق على انتشار الدين الكامل في كامل حدود الجزيرة العربية وفي هذا الكون.
ويقول فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين رحمه الله: «إن حق رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أعظم حقوق المخلوقين، فلا حق لمخلوق أعظم من حق رسول الله، في قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّه وَرَسُولِه وَتُعَزِّرُوه وَتُوَقِّرُوه وَتُسَبِّحُوه بُكْرَة وَأَصِيلًا}» (8)-(9) سورة الفتح.
وأضاف الشيخ العثيمين: «ومن حق النبي صلى الله عليه وسلم: توقيره واحترامه وتعظيمه التعظيم اللائق به من غير غلو ولا تقصير، فتوقيره في حياته: توقير سنته وشخصه الكريم، وتوقيره بعد مماته: توقير سنته وشرعه القويم).
وقال فضيلته: «إن من حق النبي تصديقه فيما أخبر به من الأمور الماضية والمستقبلية، وامتثال ما به آمر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، والإيمان به؛ فهديه أكمل الهدي، وشريعته أكمل الشرائع؛ فلا يقدم عليها تشريع أو نظام مهما كان مصدره».
إن القدرة الإلهية في نزول سورة الفتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت عظيمة لهذا الدين، كما كانت المنارة المضيئة لكل الخطوات التي قام بها عليه السلام من أجل حماية الدين السماوي، وساهمت إلى حد بعيد في نشر العقيدة السمحة في مواقع عديدة في الجزيرة العربية قبل أن تنتقل لبقاع الأرض.
وعندما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من فتح مكة سلماً اتخذ قراره الحاسم لتثبيت قواعد الإسلام في الجزيرة العربية، وبعث إلى ملوك الآفاق من النصارى والمجوس برسائل مع عدد من الرسل من صحابة رسول الله، وطلب منهم الدخول في الإسلام؛ لذلك كانت اتصالات النبي صلى الله عليه وسلم مع ملوك النصارى بمنزلة حوار فعلي وعملي بين الإسلام وأهل الكتاب في الديانات الأخرى؛ لما في هذا الأمر من خدمة الشعوب الأخرى المقيمة على أرض الجزيرة العربية؛ ليستتب الأمن والسلام في هذه المنطقة، ومن أجل إقامة الحكم السماوي العادل والدعوة إلى عبادة الله الواحد؛ لذلك جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دعائم الدين الإسلامي والدعوة إليه والتبشير به ليكون حجر الزاوية لحضارة الإسلام الثقافية في المجتمعات البشرية؛ حتى يكون الناس في هذا المحيط على بينة من أمرهم في عباداتهم وأعمالهم وجمع تلك الشعوب على كتاب الله - القرآن الكريم - وسنة رسوله بهدف القضاء على الشرك والخرافات والجهالة، والبدع والضلالات المنتشرة في تلك الدول، لتحقيق الحياة الكريمة المهذبة التي تصل بهذه الشعوب إلى أعلى درجات الرقي والكمال.
وكل ذلك يؤكد أن شريعة الإسلام في مجملها إنما تتفق مع مصالح الناس في جميع العصور والأزمان، ويهتدي بها أولوا الأمر في إقامة الحق والعدل والأمن والسلام.
لذلك كانت الخطوة الثالثة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرسل بكتبه إلى رؤساء الدول الكبرى وإلى أمراء الولايات المحتلة المحيطة بالجزيرة العربية، يدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى، ويحرص عليهم للدخول في دين الإسلام.