يخرج في الإعلام بين حين وآخر أخبار متوالية عن بطالة مواطنين في التخصصات العلمية والفنية المطلوبة في النماذج الاقتصادية الناجحة، وقد وصلت بطالة بعضهم إلى سنوات، وإن دل ذلك على شيء، فإنه يدل على أن الوطن يعاني من أزمة خانقه في التنمية، وأن بطالتهم عارض مرضي رئيسي لاستمرار اعتماد الاقتصاد الوطني على ثنائيه بيع النفط، ثم صرف ثمنه في الإعانات والمساعدات وغيرها، لكن ذلك لم يأت مصادفة، ولكن بسبب استمرار ثقافة لم تعد صالحة في مهمة الانتقال الحتمي من مرحلة الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد المتعدّد الموارد.
بصريح العبارة لم نعد بحاجه في المهمة الوطنية الأهم إلى شخصيات اقتصاديه تجيد ارتداء البشت الزري وتوزيع الابتسامات وإثارة الشفقة في المناسبات الرسمية، ولكن نحتاج أكثر من أي وقت مضى، إلى خطط اقتصادية يضعها خبراء من تجارب اقتصادية ناجحة في العالم، لأنّ الأمر لم يعد يحتمل التأخير، ولأنّ البطالة الحقيقية كشّرت عن أنيابها، ولأنّ الليالي أصبحت حبلى بمئات الآلاف من الخريجين من الداخل والخارج، وإذا لم يتم التحرك عاجلاً في إحداث النقلة، سنصل إلى يوم ما إلى حالة اللطم على الخدود تحسراً على الثروة المهدرة.
لم نعد في حاجة لقاعدة الولاء قبل الكفاءة، والولاء ليس له شهادة أو اختبار فحص في علوم الإدارة الحديثة، كما أنه لا يخضع للقياسات المادية، ولا يمكن على الإطلاق قياسه بترمومتر، يحدد على وجه الدقة نسبته واتجاهاته، بينما الكفاءة تتحدث عن نفسها من خلال الإنجازات ، لذلك أصبحت الشخصية الإدارية الكفء والقادرة على تحقيق الإنجاز مطلباً ملحاً في هذه الأيام، والسبب أنّ القدرات الخلاّقة نادرة في مختلف المجتمعات، ويجب المحافظة عليها قبل أن تندثر في الوطن بسبب الإهمال، فالإهمال للعقول التي تبحث عن تحقيق الإنجاز، يؤدي إلى استئثار نوعية فاشلة من الإداريين بالقيادة بمصالح الوطن ومستقبله.
بكل شفافية، لم نعد نحتمل ذلك الإداري الذي يضرب بإنجازات الوطن عرض الحائط، ثم يذبح ثقافة العمل والإنجاز من الوريد إلى الوريد، عندما يكتشف أن سرّ الرضا عنه، ليس في مهمة تحقيق الإنجازات الوطنية، ولكن في إجادة فن تقديم الخدمات الخاصة للمهمين جداً في المجتمع، لأنه يدرك أن نجاحه في تلك المهمة الخاصة، سيشفع له إخفاقاته الكثيرة في قتل الطموح والإبداع في المؤسسة أو الإدارة أو الوزارة، وقد يستمر في منصبه لعقود بسبب ذلك النجاح الخاص، ثم تحدث الكارثة بانهيار المؤسسة وقدراتها المميزة.
لم يعد في العصر الحديث مكان لشخصيات عامه لا تجيد إلاّ ذلك النفاق الرخيص، الذي يستجدي الثراء من خلاله أعطيات وهبات، قد تجعل منه من أكابر القوم وأغنيائهم، ثم تعيد تأهيله للخروج في صفة الشيخ الفاضل الذي حقق ثروة طائلة، ليس من خلال العمل الجاد والتجربة الاقتصادية الناجحة، ولكن بسبب إجادته لفن الابتذال في الوقت والمكان المناسبين، وفي تكرار مكافأة مثل هذه النماذج دعوة لتحويلها من هواية منبوذة على الهامش، إلى ثقافة وطنيه تُقام لها المناسبات وتُرصد لها المكافآت الباهظة.
وأخيراً لم يعد من المقبول في العصر أن نكون في ذلك الموقع المتأخر في سلّم الشفافية العالمي، يعزّز جدارة تلك المرتبة المتأخرة تصريح رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد الأخير عن رفض بعض الجهات الحكومية التجاوب مع استفسارات “نزاهة”، وهو ما يدل أنّ الفساد المالي والإداري وصل إلى درجة الاحتدام، ونأمل أن لا تطول ساعة انتظار نتيجة موقعة الاحتدام المتوقعة سلفاً، فالمستقبل على الأبواب، وينتظر القول الفصل في كثير من المواقع.