قبل التوغل بين هذه الأعمدة لا بد من تذكير القارئ الكريم أن الأصل الذي اقتطعت منه هذا العنوان هو عنوان الكتاب المشهور( أعمدة الحكمة السبعة) الذي ألفه توماس إدوارد لورنس (لورنس العرب)؛ ولكن ليس لمقالي هذا صلة بموضوع الكتاب.
إن الوضع العربي الراهن مأساوي بدون شك، ومخيف. ولا نعد من مخاوفه الخوف من ضياع الحكمة، فهي قد ضاعت بالفعل، بل من ضياع العروبة. فهل بقي منها شيء ؟ في العراق تم تمزيقها بالفعل على أيدي الطائفيين الموالين لإيران تحت غطاء الانتماء المذهبي وجاراهم في ذلك متطرفو السنة. وفى لبنان لم يكن التقسيم الطائفي كافيا لحزب الله، فأتم تمزيقه وأعلن الحزب ولاءه للولي الفقيه في إيران. وفى فلسطين يذبح حلم الدولة الفلسطينية على يد أبنائها من فتح وحماس؛ إذ فرقتهم المذاهب السياسية ولم تجمعهم مصلحة الشعب الفلسطيني وعروبته. وفى مصر نخشى أن ينشغل بناة أهرام ( أو أوهام) الخلافة الإسلامية بتثبيت مركزهم في الحكم وانتظار الغزو السياحي الإيراني فينسون بعض هموم شعبهم وأمنه وأمانه والحفاظ على وحدته التاريخية العريقة وعلى انتمائه العربي. وفى اليمن وليبيا والسودان والصومال صراعات عرقيه أو مذهبيه أو قبليه بعضها دموي. وحتى تونس لا تخلو من صراع ذي طابع مذهبي.
وفى سوريا يجرى منذ عامين تقطيع أوصال الشعب وإغراقه في الدماء وتشريده وتدمير مقومات حياته بإرادة نظامه الطائفي الحاكم الذي يتلقى الدعم القتالي من إيران وروسيا وحزب الله. وكان جمال عبدالناصر يصف سوريا بأنها قلب العروبة النابض.
ولم تكن الخريطة الاجتماعية للشعب السوري في ذلك الوقت تختلف عما هي عليه قبل عامين؛ إذ كانت أيضا تضم المسلمين السنة والدروز والعلويين والمسيحيين والأكراد. المراد من ذكر ذلك كله ليس الهتاف بدور الطائفية والانتماء المذهبي في تمزيق أوصال الأوطان العربية ومن ثم إضعاف النزعة العروبية التي توحد العرب بل التأكيد على أن تلك الاختلافات تتخذ وقودا لنار الحروب والنزاعات الأهلية التي تشعلها الاعتبارات والمصالح السياسية سواء كان هدفها بسط نفوذ سياسي في المنطقة أو التحكم في موارد اقتصادية استراتيجيه أو تولى الحكم عبر انقلاب عسكري أو انقلاب حزبي. وهذه الاعتبارات السياسية وما يترتب عليها من آثار هي أيضا من جانبها تولد الخوف والحذر وعدم الثقة بين البلدان المتجاورة. وحتى القومية العربية التي كانت جذابة قبل خمسين سنه لم تنجح في توحيد العرب ولا بعض بلدانهم لأنها كانت ذات آلية سياسية ومغزى سياسي، وكانت ترمى بثقلها على وحدة الحكومات والنظم السياسية، وصورها خصومها على أنها إما حركة شوفينيه شبيهة بالنازية، أو أنها عقيدة تقوض الإسلام، أو أنها وسيلة لسيطرة دولة عربية كبرى على دول أخرى. ولقد انطفأت نار القومية العربية فعلا؛ لكن شعلة العروبة ظلت موقدة على الرغم من العواصف التي هبت عليها : من هزيمة ??، إلى استيلاء أحزاب دكتاتورية على الحكم، إلى حرب أهلية في لبنان، إلى غزو عراقي للكويت، إلى نشاطات إرهابية مثيرة للرعب في أكثر الدول العربية مشرقها ومغربها. فالشعلة العربية كانت مهددة بالفعل، لكنها صمدت لأن أعمدة العروبة الثابتة توهن قوة الرياح العاصفة. أما تلك الأعمدة فيعرفها الجميع وهي أربعه:
الدين - دين الأكثرية، ودين الأقلية، اللغة الواحدة - ولا يضير وحدتها وجود لغات محلية أخرى، لأن أهلها يتحدثون لغة دين الإسلام. الجغرافيا - حيث الأرض ممتدة ومتصلة. التراث الثقافي - المشترك والمتوارث عبر القرون، والمترابط عبر الامتداد الجغرافي الذي مكن من التواصل وانتقال العشائر والتجار والعلوم والآداب.
لكن الرياح اليوم صارت أعتى، والتهديد أقوى. وأيا ما ستكون عليه الحال عندما تستقر الأوضاع بعد وقت لعله لا يطول، فالأمور لن تعود إلى مجراها السابق. وسيكون مثيرا للإحباط واليأس إن لم يعد العرب إلى رشدهم ويستعيدوا الحكمة التي طارت من رءوسهم ويتعلموا من هذا الدرس التاريخي الذي مر بهم؛ وهو أن ما يجب أن يحققوه هو النهضة الحضارية وليس التوحد السياسي. وتحقيق النهضة الحضارية ليس مستحيلا على العرب لأن أعمدة العروبة الثابتة هي مقومات مشتركه يستندون إليها وتتيح لهم تقاسم الجهد في إقامة أعمدة أخرى ثلاثة لنهضة حديثه لا يطلب لها إلا تحقيق شرط واحد : هو أن تكون من فعل الشعوب وبعيدة عن التماسّ مع الاتجاهات السياسية وبيروقراطية المجالس العربية الحكومية.
أما أعمدة النهضة التي أتصورها فهي باختصار:
أولا- النهضة العلمية : الجامعات ومراكز البحوث العربية تتفق على إنشاء كيانات مشتركة مستقلة مالياً وإداريا ومختصة بمهام محددة كما يلي :
-- هيئة لتنظيم ودعم برامج البحوث المشتركة ذات القيمة الاستراتيجية مثل بحوث الطاقة - الزراعة - تقنية النانو- تقنية المعلومات - الصحة العامة- الخلايا الجذعيه...الخ. ودعم مراكز البحوث النشطة وابتعاث المتفوقين للتخصص الدقيق في العلوم والتكنولوجيا وإنشاء معاهد متخصصة في البحوث والدراسات العليا يعمل بها ويتخرج منها علماء عرب.
-- مركز عربي موحد للترجمة يشرف على برامج ومراكز فرعية متخصصة موزعة على مستوى العالم العربي، وينسق بينها ويعمل على تأهيل وابتعاث خبراء لإتقان ترجمة العلوم الحديثة من الكتب والدوريات الحديثة أولا بأول، وتأهيل هيئات التدريس الجامعية في اللغة العربية العلمية ليمكن بشكل تدريجي جعلها لغة التعليم في الجامعات مع المحافظة على تعليم اللغات الأجنبية.
ثانيا - النهضة الاقتصادية: من المؤكد أنها كانت حتى الآن ضحية البيروقراطية العربية وأنانية الحكومات. وإلا فإن الترابط الجغرافي وتنوع الموارد والثروات الوطنية وتوافر القوى العاملة واللغة الواحدة- كلها عوامل كفيلة بتحقيق التكامل الاقتصادي في جميع المجالات : الصناعة - التجارة - الزراعة - الاستثمار وتدفق الأموال في المشاريع الإنتاجية - توزيع الصناعات الإستراتيجية...الخ.
منذ سنوات عديدة نسمع عن سوق عربية مشتركه ومناطق تجارة حرة واتحاد جمركي وصناعة (الدواء العربي) والوحدة الاقتصادية (لماذا الوحدة وليس التكامل؟)، ولكننا لم نشاهد نتائج ملموسة. فقط دعوا القطاع الخاص يعمل دون تعقيدات إداريه.
دعوا ( خيول المال والأعمال ) تتسابق بشرف وروح رياضيه - سباق جري لا سباق حواجز. هناك ثروات ضخمه في دول الخليج وليبيا والجزائر، وقوى عاملة هائلة العدد في البلدان كثيفة السكان قليلة الموارد.
دعونا نتعلم من (دبي ) كيف تدحر الروتين القاتل، وتستدعى الازدهار الاقتصادي، حتى صار كل مستثمر يأتي من خارج دبي يشعر أن دبي هي أيضا وطنه.
ثالثا- النهضة الثقافية: التراث الثقافي الموروث من عصور متتالية ومن مناطق مختلفة واللغة المشتركة حافظا على استمرار بيئة ثقافية عروبيه تجعل من الممكن إيجاد المادة الخام المشتركة الصالحة لتشكيل وإقامة عمود النهضة الثقافية العصرية بكل مجالاتها في الفنون والآداب والإعلام والفكر والسياحة. ما على الحكومات إلا أن تجعل سبل التواصل مفتوحة؛ أما ما عدا ذلك فإن قابلية الشعوب العربية للإنتاج الثقافي وتلقيه وهضمه لا حدود لها، وتأثير ذلك في وحدة الشعوب مباشر وفعال.
ما هو دور الحكومات في إقامة أعمدة النهضة ؟
اشتراط البعد عن السياسة والبيروقراطية الحكومية لا يلغى دور الحكومات الهام المتمثل في دعم التمويل وتشجيع المبادرات ووضع اللوائح التنظيمية المنشطة لمشاريع بناء النهضة وكذلك الرقابة والتقويم.
ولكن لا بد في كل الأحوال من الإجابة على هذا السؤال : من يعلق الجرس للشروع في إقامة أعمدة النهضة الحضارية - الحكومات؟- أم الاتحادات المهنية؟- أم المجالس النيابية؟-أم تآلف ناشطين في مجالات مهنهم ؟