ليس مستغربا أو مستكثرا أن يتمنى كل أب أن يكون ابنه أفضل منه، فالأبناء وحدهم في نظر الآباء هم الذين يستحقون أن يكونوا أفضل منهم، الأبناء فقط الذين لا بأس أن يبزوا آباءهم ويتفوقوا عليهم، سواء أكان التفوق في مجال العلم أو المال والأعمال أوالمكانة الاجتماعية أو غيرها، بل يعد هذا من وجهة نظر الآباء غاية المنى، ومصدر فخر لهم واعتزاز، فلطالما قيل وحتى الآن مازال يقال عندما يرى أحدهم صبيا في صحبة والده، يقال له: “جعلك أطيب من أبوك”، عندئذ يرد الوالد بكل صدق وبمنتهى الأريحية آمين جعله أطيب مني، يقولها بمنتهى الرضا، يقولها فرحا مسرورا مستبشرا، إنه يتمنى أن يرى ابنه في وضع أفضل منه، وضع يؤهله إلى أن يشار إليه بالبنان باعتبار ما حققه من نجاحات وأوجه تفوق.
لكن الخبرة البشرية المتراكمة في كل الثقافات، ومن واقع المعايشة والمشاهدة، سطرت مقولات تدل على أن الأبناء -بصفة عامة- يقصرون عن بلوغ ما بلغه آباءهم من علم ومكانة، أو سمعة وثرى، أو غيرها من صور المقارنات والتمنيات، لذا قيل: “النار ما تورث إلا الرماد”، وقيل: “ما كل يجي على ساس والده”، تواترت هذه المقولات وغيرها بناء على ما وقر في أذهان الناس وتبين لهم من كون الأبناء لا يرقون في الجملة إلى المنزلة التي نالها الآباء، ولا يحققون بعضا مما حققه الآباء.
لكن هذا حتما لايعني أنه لا توجد حالات سار فيها الأبناء على خطى والديهم، لذا قيل: “هذا الشبل من ذاك الأسد”، وقيل: “من شابه أباه فما ظلم”، بل إن هناك حالات ربما تفوق فيها الأبناء على آبائهم وبزوهم، وهذا التفوق لم يثر حفيظة الأباء أو غيرتهم، بالعكس تكاد تكون هذه الحالة من التفوق هي الوحيدة التي يفرح فيها أحد لكون آخر تفوق عليه وبزه، وإلا جرت العادة أن لا أحد يتمنى أو يرضى أو يقبل أن يتفوق عليه غيره مهما كانت الأحوال، وهذا أمر طبيعي متوقع يتوافق مع شمائل الإنسان السوي وطموحاته، الإنسان الذي يتطلع دائما إلى أن يكون في المقدمة، إلى أن يكون ملء السمع والبصر بين أقرانه ومعارفه، يتفوق عليهم ويبزهم ويحوز قصب السبق دائما عليهم.
وتكشف الخبرة البشرية عبر الأجيال المتلاحقة في كل الثقافات، أن لا جيل رضي أو يرضى بأن يكون نسخة من الجيل الذي يعايشه أو الذي سبقه، فكل جيل له سماته وخصائصه التي يتميز بها وتميزه عن الأجيال السابقة، ومع هذا تظل حركة التميز أو التمايز في الإطار العام المجتمعي، تحافظ عليه، تهتدي بقيمه، تلتزم بأدبياته، لا تصادمه ولا تتمرد عليه، وبهذا يبقى التميز والتمايز محمودا مقبولا في كل المجتمعات البشرية على اختلاف مستوياتها الثقافية، بل إن الثبات على الموروث والاكتفاء به يعد من دلائل العجز والضعف.
لهذا تقتضي الحكمة، وتقتضي معطيات الواقع ومتغيراته، أن يتفهم الآباء تلك المتغيرات المتسارعة، وأن يفرقوا بين قناعاتهم التي ألفوها وتربوا عليها، وما يؤمنون به من مفاهيم وممارسات، وبين ما جدّ في حياة الشباب من مفاهيم وسلوكات بسبب الثورات الثقافية المتحررة من أصولها القيمية الموروثة، بل قد تصل إلى درجة التمرد والخروج، ومما ساعد على سرعة انتشار هذه المستجدات والتأسي بها وتبنيها من قبل الشباب، الأقنية المعلوماتية التي يتنامى محتواها بصورة كمية ونوعية فاقت كل التوقعات، بل لم يعد بالإمكان ملاحقة المحتوى المعرفي الذي يبث في تلك الأقنية كل ثانية.
إن الفجوة الثقافية بين الآباء وأبنائهم تزداد اتساعا، وترتب على ذلك الكثير من مظاهر القلق والتوتر في العلاقة بينهما بسبب صور من السلوكات غير المألوفة وغير المحمودة، بدا الآباء تجاهها بلا حول ولا قوة، وهذا مما يفسد الحياة الأسرية ويضعف بنيتها أمام ضبط المتغيرات المتلاحقة وهي حتما أشد ضراوية وحدة.
abalmoaili@gmail