من يخرج إلى أي مجمَّع تسوقي أو أي شارع اليوم سيرى المقاهي تملأ المدينة، وهذا شائع في الكثير من بلدان العالم، فصار كوب القهوة الصباحي جزءاً لا يتجزّأ من الطقوس اليومية للكثير من الناس، فلا يذهبون للعمل أو الدراسة إلا بكوب ساخن من عصارة حبوب البُنّ، والحقيقة أن هذه الشعبية الواسعة للقهوة ليست جديدة وليست حكراً على زماننا هذا، بل كان هناك ما يماثل هذا الإقبال قبل 600 سنة في المشرق الإٍسلامي، فكان الناس يعشقون هذا المشروب حتى صار لهم تجمعاتهم في المقاهي والتي تحولت أحياناً إلى مراكز للفتنة، وهذا ما دعا السلطات في مدن مثل مكة والقاهرة إلى محاولة منع القهوة غير أن المحاولة فشلت فشلاً ذريعاً، فالناس قد استولى عليهم عشقها وما كانوا ليتركوها مهما كان، وانتشر المشروب المحبوب في أرجاء الدولة العثمانية وصار جزءاً من حياة الكثير.
لما حاصر المسلمون فيينا عاصمة النمسا عام 1529م بعد أن نقضوا عهدهم مع المسلمين لم ينجح الحصار خاصة مع غدر الدولة الفارسية الصفوية التي هاجمت جيوش المسلمين من الخلف، فرجع المسلمون إلى بلادهم وتركوا بعض أمتعتهم وكان منها القهوة، ولما خرج أهل فيينا من حصونهم وأخذوا الأمتعة رأوا فيها هذه المادة الغريبة وتدريجياً بدأوا يُقبلون على شربها، ولكن القساوسة رأوا هذا وقلقوا! ماذا أقلقهم؟ ضايقهم في الأمر أن المشروب أتى من المسلمين وأن النصارى بدأوا يعشقونه، فاجتمعوا وذهبوا للبابا زعيمهم وطلبوا منه أن يُحرّم هذا الشراب لأنه خليط شيطاني من صنع المسلمين – وهنا تأمَّلوا قول الله تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ}التوبة 31، فطلب أولاً أن يتذوقه قبل أن يحرّم أو يحلّل، ولما أخذ رشفة أعجبه الطعم فقرر أن يُحِلَّ هذا المشروب قائلاً: «إن المشروب الشيطاني هذا لذيذ! لن أدع أعداءنا يتلذذون به!»، وبدأت القهوة تنتشر تدريجياً في أنحاء أوروبا إلى اليوم.
الآن طبعاً انتشرت القهوة حول العالم كاملاً، وانتشار القهوة العالمي هذا قُوبِل بآراء متناقضة، فالبعض يلومها على أضرار تصنعها للجسم البشري مثل السرطان وأمراض القلب كما وجدت بعض الدراسات القديمة، والبعض يُثني عليها لمذاقها بل حتى لمنافعها الصحية، فأين القول الصحيح؟ حسب كلام العلماء فإن القهوة لها أضرار ولها منافع، فالدراسات الأولى التي قالت أن القهوة مُسَرطنة وتضر القلب لم تأخذ في الاعتبار أنماط حياة مُكثري شرب القهوة آنذاك مثل التدخين وقلة الحركة، والعلم اليوم وجد أن للقهوة منافع، فمن يشربها باعتدال تقل لديه احتمالات الإصابة بمرض ألزهايمر والخَرَف والشلل الرعّاش وحصوة المرارة ومرض السكر بل حتى السرطان ومرض القلب! أيضاً من يشربون القهوة يتحسّن لديهم الأداء العقلي وتصبح الكبد أكثر صحة، وكثير من هذه المنافع تأتي من كون القهوة تحوي مواد مفيدة اسمها مضادات الأكسدة -والتي تتركز أكثر في الشاي الأخضر-، ولكن أكثر أضرار القهوة تأتي من القهوة غير المُصفّاة، وكذلك من الإضافات الكثيرة للقهوة مثل السكر الأبيض الذي هو من أضرّ الأشياء التي يتناولها البشر، وكذلك البودرة وأشياء أخرى غير ذلك، والإفراط في تناول القهوة يضر أيضاً ويزيد احتمال الإصابة بمرض القلب بدلاً من أن يحميه، وأوضح أضرارها هي العقلية والنفسية مثل التوتر والقلق والأرق.
إذاً القهوة لها منافع وأضرار، والخيار لشاربها.
هذه هي القهوة، حُبيبات صغيرة لكن ضخمة الحضور في تاريخنا وحاضرنا!
Twitter: @i_alammar