عبدالعزيز القاضي
ألا يا هل الطايف متى ينتهي المشوار
تجو عندنا في مشتل الخرج للديرة
حمد الطيار
في الحلقة الماضية ذكرنا أن الفنان حمد الطيار - رحمه الله- لم يكن فناناً فحسب، بل كان شاعراً كتب عدداً من أغانيه, ثم ذكرنا ما عرفناه من تلك الأغاني التي كتبها, وتوقفنا عند أغنيته الأكثر شهرة وهي (ألا يا هل الطايف) وقلنا إن لها قصة طريفة.. ونحن ننقلها هنا من التقرير الذي كتبه الأستاذ محمد القرناس ونشرته الزميلة الرياض قبل عامين بمناسبة مرور عام على وفاة الفنان. يقول القرناس في ذلك التقرير: (مع إلحاح أحد أصدقائه بتسجيل شريط خاص للذكريات بدأ الطيار في التفكير بتقديم أغنية لصديقه الذي سافر في دورة عسكرية للطائف فاستذكر أغنية قديمة مطلعها «ألا يا هل الطايف متى حزة الترحيب» وبدأ بتغيير الكلمات لتتوافق مع عتب صديقه فكتب الطيار «ألا يا هل الطايف متى ينتهي المشوار.. تجو عندنا في روضة العز للديرة» أكمل الطيار القصيدة وسجّل الأغنية وأرسلها لصديقة الذي أسعدته كثيراً، ولم يكن الطيار يعلم أن هذه الأغنية بما حملته من بساطة في الكلمات ستكون بوابة الشهرة الحقيقية لاسمه وعلامة بارزة خلال مشواره الفني، ومن الطرائف التي واكبت تسجيل الأغنية إصرار الكورال على ترديد « تجو عندنا في مشتل الخرج للديرة» بدلاً من روضة العز، فراح الطيار يردد هذا الشطر كما كتبه وكما ردده الكورال من خلفه) انتهى كلام القرناس.
أما أغنية (حدوني على العنبر), وهي أغنية قصيرة جداً لا تتجاوز البيتين, وهما:
حدوني على العنبر وانا احب دهن العود
ولا خلَّوا المحتار ياخذ على عينه
وانا لي مزاجٍ ما يوافق على الماجود
أبي نوع طيبٍ خابره مير مخفينه
فقد كتب الطيار كلماتها في مناسبة خاصة جداً, ولعلها الوحيدة التي يعرف قليل من المقرّبين إليه مناسبتها التي تؤكّد أنه كتبها بدافع شعوري لا فني, وحين غناها الطيار غيّر قافية الشطر الثاني من البيت الأول فقال (ولا خلَّوا المحتار ياخذ على كيفه), ثم نبه في أثنائها على أن الصواب (على عينه). وللقصيدة بقية لم تُنشر من قبل وننشرها هنا للمرة الأولى, وهي:
ترى ما يريحني سوى شفي المقصود
وراع الوله يفرح بشوفة محبينه
وقفتوا مع همومه على حظه المقرود
كفاية تضيمونه وهي (غبرا سنينه)
ترى الملح ما يقطع ظما قلبي الملهود
ولا يجرح العاشق سوى بعد مغلينه
علي من وله قلبي عتب حامي ومنقود
وعيني بدمعي للوله دايم تدينه
انا ويش أسوي دام دربي غدا مسدود
وشفّي عن عيوني هم اللي مخبينه
لم يكن الطيار شاعراً فحسب، بل كان ناقداً فنياً وأخلاقياً أيضاً, وكان ذا بصر ومعرفة بالمعاني, وعنده قدرة على تمييز الغث من السمين, ومعرفة المناسب من غير المناسب, وكان في بعض الأحيان يعدل الكلمات غير المناسبة حسب ما يمليه عليه ذوقه ومعرفته بأبعادها, يغيّرها (حسب الميانة على الكاتب طبعاً) حتى إنه استدرك على الشاعر الكبير المرحوم حمد المغيولي في قصيدة غناها الطيار, ومطلعها:
فاشل اللي يعد الحب له راس مالي
والله إني بعد جربت وضعه ما ريده
فغيّر الطيار كلمة (فاشل) إلى (خاسر) وعلل التغيير بقوله إن (خاسر) في هذا الموضع أكثر دقة من (فاشل), فمصطلحات (راس مالي) و(بنك الحب) و(رصيده) التي وردت في هذا البيت وفي البيت الثالث الذي يقول:
بعد جربت واجد قلت يا هملالي
من تورط ببنك الحب يفقد رصيده
يناسبها مصطلح (الخسارة) أكثر من مصطلح (الفشل) لأن المسألة كلها (ربح وخسارة).. وكان هذا التغيير محل إقرار وإعجاب الشاعر الكبير وارتياحه!
قلت: وهذه نظرة ثاقبة تعبر عن حس الطيار المرهف, وذائقته النقية, فعماد الصورة في القصيدة أن الشاعر شبّه (الحياة) بـ (التجارة) لكنه عَدَل عن المشبه (الحياة) إلى لازمه (الحب), كما عدل عن المشبه به (التجارة) إلى لازمه (رأس المال), والحب يناسبه الفشل, ورأس المال يناسبه الخسارة, والإمعان في توظيف المصطلحات التي تناسب (المشبه به) أجمل وأعذب وأكثر إمعاناً في جلاء التشبيه وبيان روعته من توظيف المصطلحات التي تناسب (المشبه). وجلب ما يناسب (المشبه به) يسميه البلاغيون (الترشيح) وفي الترشيح تقوية للمشبه به وتأكيد على قوة علاقته بالمشبه.
كان الطيار - رحمه الله- دقيقاً في اختيار كلمات أغانيه, ولا يغنيها حتى يتأملها ويفهم معانيها ومناسباتها ومراميها وطريقة تعبيرها, ولذلك كان يرفض غناء الكلمات غير المناسبة إما لمعانيها أو لسبب إنشائها أو لغايتها غير المريحة له.. إلخ, قال الشاعر خالد الجاسر: «أعطي أبو ناصر القصيدة وأنا مطمئن جداً». ومن طرائفه المعبِّرة عن فطنته ودقته أنه قال يوماً لمحمد العثيم: الله يهديك يابو بدر كيف ضحكت الناس علي؟ قال العثيم: وشلون يا بوناصر؟ فقال الطيار ضاحكاً: تخليني أغني (إلى تهيض خاطري صحت أناديك) وأنا ماني ديك!
كان الطيار ـ وخصوصا في بداية شهرته ـ صارما في الفن، لا يرتاح لمدّعيه ولا لمن يقتحمون عالمه بلا جواز مرور، حكى لي أحد الأصدقاء الشعراء، قال: في ليلة من ليالي رمضان عام 1399هـ كنت من ضمن الحاضرين في منزل ضابط الإيقاع الأشهر المرحوم (راضي درويش)، مع مجموعة ضمت شعراء وفنانين وإعلاميين، وكان من ضمن الحاضرين المرحوم حمد الطيار، فطلب منه أحد كتاب الصفحة الفنية في إحدى الصحف المحلية، ويبدو أنه حضر تلك السهرة من أجله، طلب منه أن يجري معه لقاء صحافيا، وربما قدّم له نفسه على أنه (ناقد فني)، فقال له الطيار: ليس لدي أي مانع من إجراء الحوار ولكن لي شرط، فقال الصحافي: ما شرطك؟ قال: قبل إجراء الحوار سأغني أغنية وأريدك أن تأخذ (المرواس) من راضي وترافقني فيه على اللحن! فقال الصحافي: ولكني لا أعرف (الترويس)، فقال الطيار: «إذا كنت ما تعرف تروّس، والمرواس أسهل الآلات الموسيقية فأنت ما تفهم في الفن وإذا كنت ما تفهم في الفن كيف تبي تجري معي حوار؟» فبهت الصحافي وسكت ولم يتم إجراء المقابلة الصحافية .. قلت: ثم إن هذا الصحافي تألق فيما بعد وذاع صيته واشتهر صحافيا كما اشتهر كاتب أغنية جميلا، وقد كتب عددا من الأغاني الشهيرة لعدد من فناني الأضواء المشهورين .
وهذا الموقف الحدّي الصارم من حمد الطيار رحمه الله في تحديد مهمة (الناقد) موقف يمثل رأي شريحة من المبدعين سواء في (الفن) أو في (الأدب) خصوصا أولئك الذين يتبرمون بكلام النقاد في إنتاجهم، فينتقصون منهم ويشككون بقدرتهم على فهم الفن أو الشعر بحجة أنهم لا يستطيعون أن يبدعوا مثلهم، ولعل هذا الموقف يبرز بصورة أجلى لدى شعراء الفلاشات هذه الأيام. وهو رأي غير صحيح بالطبع، فهو رأي تمليه العاطفة المتبرمة وينفيه العقل العادل، فلا يلزم أن يكون (الناقد) فنانا أو شاعرا، كما لا يلزم أن يكون الشاعر ناقدا محترفا حتى وإن كان يميز الجيد من الرديء. والشعر والفن عملة لها وجهان: وجه إبداعي، ووجه علمي (معرفي)، والإبداع للفنان والشاعر، والعلم والمعرفة للناقد.
- الوثائق وصورة الطيار القديمة ومعلومات قصائد الطيار المغناة، وافاني بها الصديق ياسر الدامغ مؤسس موقع ومنتدى (الطيار كوم).
alkadi61@hotmail.com