* * بين الدروسِ الأولى التي وعاها في حياته ألا يكون متعصبًا لحزبٍ أو فئةٍ؛ فقد شهد مجالس والده - حفظه الله - وجلساءَه ورأى فيهم السلفيَّ والإخوانيَّ والقوميَّ والناصريَّ والمتشددَ والليبراليَّ والمتعلمَ والأميَّ فعرف أن الحياة ليست أحدَ هؤلاء أو بعضَهم، بل هي كلُّهم وأكثرُ منهم إذ لا فردَ أو جماعةً تحتكر الحقيقة، وحين تكوَّنت صِلاتُه القريبة وجد في أصفيائه هذا الخليط الجميل، وأدرك أن القرب والنأي والحبَّ والكُره مشاعرُ إنسانيةٌ مجردةٌ لا يرد في الخاطرالعفويِّ صرفُها لاتجاهٍ أو متوجهين.
* * تعلَّم هذا الدرس موقنًا أنه المخَلِّصُ من الفكر الجاهز والأحكام المسبقة التي عبثت في ثقافتنا مخلفةً التصنيف المُراوحَ بين التصنيم والتحطيم أو بين رفع الشخوص لمرتبة المقدس أو الهبوط بهم لقاع المدنس، وهو متطلبُ وعيٍ يَفترض أن نُقوِّم كلًا بسلوكه الأنويِّ الآنيِّ وفق معايير العدل الإنساني التي يعتورها القصور دون ريب لكنها تبقى محدداتٍ للخروج من نفق الجَور والحَوْر.
* * شيءٌ من هذا يفتقده الواقع العربيُّ المتشابكُ في أطره الثقافيةِ والسياسيةِ والاجتماعية، حيث تولَّدت تكتلاتٌ مذهبيةٌ وفئويةٌ وطائفيةٌ تتحكمُ بمواقفِ أكثرنا حتى إذا غزت غزيةُ غزَوا وإذا رشدت رشدوا وباتت مفاتيحُ انتماءاتهم مرتهنةً بما يسلكه تيارُهم أو يمليه، وهو ما جعل الصورةَ تنقسم بين مَعوية وضديةٍ يُعوزها المنطق الهادئ الذي يقرأ الحكاية منفصلةً عن مؤلفها؛ فلا يروم استحالةَ الكمال ولا يجزم بحتميةِ الاختلال.
* * والمثل الأقرب هنا «مصر» حين استأثرت بأحداثها لغةُ المشهد ولغوُ المُشاهد في معركة الإخوان ومناوئيهم مع أن الحقيقة تُنصف كليهما لو وزنت برؤية غير المنتمي الذي يرى الواقع متسعًا لمن كأسُه نصفان؛ فعام واحدٌ على تسلم الإخوان لا يعطي شرعيةً لمن يراهن عليهم سلبًا أو إيجاباً، ويكفي أن نلتفت لستين عامًا من حكم العساكر الأربعة (نجيب وعبدالناصر والسادات ومبارك) لندرك حيف تقزيم تجربةٍ لم تكتمل اتكاءً على مواقفَ من الفكر الإخواني بصيغتيه «البَنوية» و»القطبية»، وفي المقابل فإن مناصريهم يكادون يوصلونهم لدرجة العصمة والتنزيه غافلين عن أخطاءٍ كثيرةٍ ارتكبوها.
* * الأيامُ القادمة حُبلى، وسواءٌ أنجح مشروعُ إسقاطهم أم بقُوا فإن ما يعتني به المثقفُ الحرُّ هو إكمالُ المدار الديموقراطيِّ بجميع مساراته ورفضُ الخروج عليه إلا بآلياته كي لا ننتقلَ من الدكتاتوريةِ إلى الغوغائية.
* * لم يرأس الإخوانُ مستقلين أيًا من البلدان العربيةِ طيلة تأريخهم، وربما تحالفوا مع أنظمةٍ فانقلبت عليهم، وقد نتوقّعُ فشلهم حيث دانت لهم بعض السلطات لكنها شهورٌ لا دهور تجعل الباحث عن الحقيقة يتأنى قبل أن يتجنَّى، والأمر ذاته حقٌ ندين به لأي تيار قادمٍ عبر صناديقِ الاقتراع.
* * لن تكون مصادفةً أن تشهد «مصرُ وتركيا» حراكًا شارعيًا محتدمًا؛ فسقوطُ أكبر قوتين «سُنِّيتين» في هذا الجوِّ المذهبيِّ سيكون عرسًا فارسيًا نزفُّه لهم لتكتملَ الدائرةُ السوداءُ حول الرقابِ الجريحة، ولعل من يتبنَّون الخطاباتِ الإقصائيةَ التحريضيةَ يراجعون ضمائرَهم.
* * الاحترابُ خَراب.
ibrturkia@gmail.comt :@abohtoon