السعودية هي أكبر الأسواق الرقمية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث يتجاوز عدد مستخدمي الإنترنت فيها 13 مليون مستخدم (كونكت آدز). والسعوديون هم الأكثر نشاطاً في مواقع التواصل الاجتماعي مثل يوتيوب وتويتر وفيسبوك.. فما أسباب هذا النشاط العجيب؟
قبل الإجابة من المهم معرفة مقدار هذا النشاط. السعودية تحتل المركز الثالث عالمياً في عدد مشاهدات يوتيوب بعد أمريكا والبرازيل، وقياساً بعدد السكان تتفوّق السعودية على أمريكا بأكثر من ثلاثة أضعاف للفرد، حسبما ذكر ماجد الغامدي رئيس رابطة الإعلاميين السعوديين بأمريكا (صحيفة الاقتصادية). أي أن السعودية هي أكثر دولة في العالم مشاهدة لليوتيوب نسبة لعدد السكان. ولا يكتفي السعوديون بالمشاهدة بل إنهم ينتجون مشاهدات إبداعية على يوتيوب، فهناك العديد من القنوات التي ينتجها الشباب السعودي وتحظى بملايين المشاهدات يومياً، مثل: إيش اللي، صاحي، خرابيش، لا يكثر، على الطاير، نو كوميدي..
وإذا انتقلنا إلى تويتر، فأكثر من نصف مستخدمي الإنترنت بالسعودية يمتلكون حسابات لهم في تويتر، مما جعل السعودية أكثر بلد استخداماً له قياساً بعدد مستخدمي الإنترنت وفقاً لمركز دليل الشبكة العالمية “Globalwebindex” للأبحاث. والسعودية بها أكثر من ثلاثة ملايين مستخدم نشط بتويتر يصدرون خمسين مليون تغريدة بالشهر (كونكت آدز)، فيما إجمالي عدد مستخدمي تويتر بالسعودية تجاوز الأربعة ملايين (كلية دبي للإدارة الحكومية). النشاط السعودي التويتري امتد إلى المتابعين الوهميين، فالمستخدمون السعوديون هم الأكثر إقبالاً على شراء المتابعين المزيفين حسبما أوضحت عدة مصادر في تلك السوق السرية، من بينها تصريح مسؤول موقع متخصص بالمتاجرة بتلك السوق لصحيفة الوطن.
أما عدد مستخدمي فيسبوك بالسعودية فيتجاوز ستة ملايين إلا أنه لا يحظى بنفس المتابعة النشطة التي عليها تويتر. ولا يقتصر استخدام السعوديين على المواقع الثلاثة المشهورة (يوتيوب، تويتر، فيسبوك)، بل يمتد إلى مواقع أخرى إذ يستخدم مليون سعودي شبكة “لينكد إن”. وهناك شبكات أخرى تشهد نمواً متزايداً بالسعودية مثل “كيك” و”بنتريست” و”انستاجرام” (بي بي سي). هذا النشاط السعودي العارم، جعل الكثير من المؤسسات الإعلامية تتساءل عن الأسباب، وعُمل العديد من استطلاعات الرأي والتقارير.
لعل أول الأسباب التي تتبادر للذهن هو درجة الحرية المتاحة في مواقع الإنترنت مقارنة بوسائل الإعلام التقليدية. فقد عبّر كثيرون في الاستطلاعات عن أن السبب الرئيس لنشاطهم في الإنترنت هو أنهم يستطيعون قول ما لا يمكنهم قوله في المواقع التقليدية. كذلك عبّر كثيرون بأنّ كثرة المحظورات والممنوعات في المجتمع أدى بهم للجوء إلى الإنترنت لإيصال صوتهم.
كما أنّ ضعف وسائل الترفيه والمتعة وقلة النشاطات الشبابية الترفيهية والرياضية هي من أهم أسباب التوجه النشط للإنترنت، الذي صار متنفساً لا غنى عنه للتسلية وملء وقت الفراغ لدى كثيرين. فمثلاً يرجع البعض كثرة الإنتاج السعودي في يوتيوب إلى غياب السينما، لذا - كما يقول ماجد الغامدي - لجأ السعوديون إلى (يوتيوب) للتعبير عن احتياجاتهم ومشكلاتهم وبثها درامياً باليوتيوب بطريقة سينمائية.
أحداث ما أطلق عليه الربيع العربي كانت من أسباب التوجه المفاجئ لتويتر وفيسبوك، فالنشاط التونسي والمصري بهذين الموقعين إبان الثورة التونسية والمصرية جعل البعض يتطلّع إلى معرفة ما يحدث، فحصل ما يشبه كرة الثلج في تضخم تويتر وفيسبوك، وصاحب ذلك نشر الوعي الثقافي السياسي إلى مستوى أفضل، لكن بالمقابل حصل احتقان واستقطاب فكري (محافظ / ليبرالي) وطائفي (سني / شيعي) وقذف وتشهير وتسطيح للأفكار، وتراجعت لغة الاعتدال المعهودة بالإعلام التقليدي.
فإيجابية الحرية التي يتيحها الإنترنت انعكست بسبب صدمتها المفاجئة إلى سلبية وأسيء استخدامها التي وصلت لما سمّاه البعض “الاقتتال بالألفاظ” حسب مسح قامت به قناة الحرة التي أوضحت أنّ دراسة أجراها مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني كشفت أنّ 53% من عينة الدراسة، ترى أنّ حرية الإعلام الإلكتروني بالسعودية “تعزِّز التعصب الفكري أكثر من الوسائل الإعلامية الأخرى”. لذا عبّر كثيرون عن امتعاضهم من سوء استخدام هذه الحرية، مما حدا ببعض الكتّاب والدعاة بالمطالبة بوضع قيود صارمة على الإنترنت، بل طالب بعضهم مثل الكاتب زهير الكتبي بإغلاق تويتر في السعودية أو ضبطه بقوانين تحفظ الحقوق.
سوء استخدام الحرية التي يتيحها الإنترنت قد يكون مؤقتاً باعتبار أنّ مواقع التواصل الاجتماعي جديدة ومفاجئة، فهي أخطاء طبيعية من أناس لم تعتد على التعبير عن رأيها علناً ولا الحوار مع الآخر بل لم تعتد على الكتابة أصلاً.. فهي أخطاء تحصل مع كل وسيلة جديدة يمارسها البعض على الطريقة القديمة، فالذي لم يمارس الكتابة قط لن تكون كتابته بلا أخطاء وما يتضمّنه من تجاوزات كتابية، لأنه اعتاد على الحوار الشفهي المباشر بالتعبير العفوي في الرأي الذي يظهر تلقائياً بألفاظ حادة وباتهامات بلا توثيق وإحصاءات بلا مصادر وتنقلات بالرأي بلا تنظيم..
وليس المؤقت هو هذه الإساءات في الاستخدام، بل إنّ النشاط العام في مواقع التواصل الاجتماعي هو نفسه قد يكون مؤقتاً، وسرعان ما يزول أو يتراجع أمام أنماط جديدة أو انتهاء مرحلة لذة الاكتشاف، فلكل جديد لذة. وهذه بدأت بالفعل، فموقع فيسبوك يشهد تقلصاً عالمياً ومحلياً، فيما يبدي كثيرون امتعاضهم من تويتر وتقلص استخدامهم له. فقد ذكرت صحيفة ليموند أن هناك هجرة من الشباب للمواقع الاجتماعية التقليدية بسبب كثرة مشاركة الآخرين في المعلومات الشخصية وتفاصيل الحياة الخاصة، وما ينتج عنه من آثار مزعجة.
لاحظ المفارقة الطريفة، ليموند تطلق على فيسبوك وتويتر مواقع تقليدية! أما الجديد فهو مواقع أطلق عليها مواقع “سريعة الزوال” أو “الإرساليات الآنية” أي آنية تزول ولا تترك أثراً بعد إرسالها مثل كيك وسناب تشات.. فهذا الأخير يتيح لك إرسال رسالة تبقى لثوان محدودة ثم تُمسح حتى من جهازك ما لم تحفظها، كما أنها تقدم تقنية سهلة لمراقبة معلوماتك الشخصية، فهي تقدم خدمات أكثر حفاظاً للحياة الخاصة.
في كل الأحوال صار الإنترنت مصدراً للبحث المعرفي وللأخبار وللحوار الجاد أو التافه أو الاتهامي، وصار متنفساً أساسياً للتسلية وملء وقت الفراغ، لكنه تحول عند البعض إلى حالة إدمان. فهل أصبحت مدمن إنترنت؟ وكيف تعرف ذلك.. هذا ما سيناقشه المقال القادم..
alhebib@yahoo.com