ما أقصد بالتوافق هنا هو الإيمان بالاختلاف كخطوة أولى، ثم معرفة المصالح المشتركة التي تجمعنا مع من نختلف معهم بحيث تكون الأساس في علاقاتنا بحيث توحدنا وتجمعنا ولا تفرقنا وعكس التوافق الاستقطاب الذي يعني النظر خارج مدى المصالح المشتركة لما يميزنا في اختلافنا
بحيث تصبح مصالح من نختلف معهم في تناقض تام مع مصالحنا مما يجعلنا نفكر في القضاء عليهم أو منعهم من تحقيق مصالحهم. والمصالح المشتركة تكون عادة نسبية وتعتمد على الأطراف التي تشملها، وقد تتسع وتضيق حسب رقعة الخلاف أو شدته، وفي أسوأ الحالات يؤدي الاستقطاب إلى العنف والحروب.
وقد أثبت التاريخ الإنساني على مر العصور أن أسوأ أنواع الاستقطاب هو الاستقطاب العقدي: الدين، المذهب، الطائفة الخ.. فالعقيدة هي ما يؤمن به الإنسان بشكل مطلق وتلقائي على أنه حقيقة مطلقة دون جدل أو برهان، وتتسع رقعة المساحة العقدية بين العوام على وجه الخصوص نتيجة للتشبع بدون التفكير أو التدبر، وقد تأخذ طابعا دوغمائيا خطيرا يدفع بهم للتضحية بحياتهم وحياة من يختلفون معهم، وقد تأخذ أمور خلافية صغيرة بعدا عقديا خطيرا لدى العوام، ويختلف الأمر بالطبع لدي القادة والمفكرين الذي يوجهون العوام لأنهم ينظرون للأمور في سياقاتها الزمنية والنسبية، وقد لا يؤمن بعض المنظرين بكل ما يسوقونه للعوام على أنه حقائق مطلقة لأنهم يكونون عادة على اطلاع أعمق وأعم عليها، وعلى مصادرها ومصادر الخلاف حولها، بل قد يكون المفكر أحيانا هو من ابتدعها وليس لها سند من الواقع، وعادة ما تغيير الإيدليوجيات بعد الارهاق من الصراعات، أو بظهور قيادات جديدة تملك وسائل تأثير جماهيرية تغير القناعات التي بنيت عليها الصراعات السابقة.
ومما يؤسف له فإن الشعوب المتقدمة، ومن واقع تجارب تاريخية مريرة أدركت فيما بينها أهمية التوافق، وقذفت بالاستقطابات خارج حدودها، فقد تجد كنيسة كاثوليكية وأخرى بروتساتنية بجانب بعضهما في وئام تام حسب قواعد تواجد صارمة في دولة ما، لكن هذه الدولة ذاتها، ذات قواعد التواجد الصارمة، تستثمر أسوأ انواع الاستقطاب المذهبي خارج حدودها، وقد تجد مسجدا سنيا بجانب مسجد شيعي في دولة غربية يتواجدان في وئام وتوافق تام، ولكن هذه الدولة، لمصالحها الذاتية، تكون طرفا نشطا في تأجيج وتغذية صراع سني شيعي في منطقة أخرى من العالم.
ومما يؤسف له فإننا في عالمنا الإسلامي والعربي خلال القرنين الماضيين رسخنا ثقافة الاستقطاب وغذيناها بكافة الأطروحات النظرية، والأيدلوجية، ودعمناها بالنظرة الفئوية للمصالح الخاصة وقضينا على فكر التوافق والمصالح المشتركة، فكثير من الأحيان نفكر بطريقة ثنائية استقطابية لا أطياف أخرى فيها، وتاريخنا هو تاريخ حلقات متتابعة من انتصارات أطراف على أخرى بشكل إقصائي، هذه الطريقة الثنائية التي تمت تنشئة كثير من المسلمين عليها، وهي أن ننظر للأمور على أنها إما صحيحة مطلقة أو باطلة مطلقة، عقلية ثنائية استقطابية بطبيعتها وعاطفية في نظرتها للأمور، ترفض النسبية وترفض الاختلاف، وترى الآخرين دائما وكأنما هم إما على حق مطلق أو على ضلال مطلق، وعندما تشحن أيدلوجيا تكون ميالة للعنف، وفي اقصى درجات الشحن العاطفي تكون مستعدة للتضحية بالنفس، وهذا موجود أيضا في ثقافات أخرى وعلى وجه الخصوص في أمريكا، حيث تنسحب عقلية “نحن وهم” التي يعززها الإعلام لتأخذ نطاقا وحيزا أضيق إما مذهبيا أو فئويا، وهذا هو أحد أسباب العنف الذي أقدمت عليه بعض الجماعات المتطرفة في أمريكا، أو الانتحار الجماعي الذي مارسته بعض الطوائف كما حصل في قضايا “تشارلز ميسون”، و”إنديانا جونز”، وقرية “ويكو”.
وما نشاهده اليوم وللأسف في منطقتنا وشاهدناه خلال نصف القرن الماضي، هو نتاج إيدلوجيات الاستقطاب التي تبنتها بعض الأنظمة في المنطقة سواء كان ذلك استقطابا إيدلوجيا، أو مذهبيا، أو حتى سياسيا سياسات ضيقة الأفق لا ترى أبعد من مصالحها الخاصة، ولا تعترف بمصالح مشتركة، لأنها لا تعترف بالاختلاف أصلاً، ففي الستينيات، على سبيل المثال دخل المد القومي في صراع وجود مع المد الديني أو ما أطلق عليه تجاوزًا “المد الرجعي”، وهذا فتح الباب واسعًا لجرنا للاستقطاب الدولي الشرقي الغربي، فالشرق الشيوعي دعم المد القومي رغم تناقضه مع إيدلوجيته الأممية؛ والغرب المسيحي استقطب القوى الإسلامية التي يعاديها دينياً وتاريخياً، ودعهما ضد القوى القومية فتصارعت هذه الأقطاب على أرضنا ونهبت ثرواتنا. والغريب في الأمر أنه حتى بعد تغير قوى الشيوعية الأممية بقي الاستقطاب كما هو وكما نراه اليوم في سوريا وغيرها؛ روسيا تريد السيطرة على سوريا من خلال دعم حكم طائفي فيها، فالهدف من هذا الاستقطاب هو المصالح ليس إلا.
وتتربص الدول الكبرى بالدول الصغيرة لتعرف مدى قابليتها للاستقطاب ثم تنقض عليها؛ فالقوى المستقطبَة (بفتح الباء) تتحول تلقائيا لقوى مقاتلة في سبيل مصالح الدول المستقطبِة (بكسر الباء) سواء بعلمها أو غير علمها لأن الأولى تحتاج الثانية لأسباب الاحتراب الداخلي، وهذا نسق استعماري وشبه استعمار لم يتغير من سنين، فالاحتراب الداخلي يعني الدمار، والفقر، والديون، ما يتسبب في زيادة الطلب على المساعدات الخارجية التي تأتي فيما بعد مشروطة بالتنازل عن جوانب من السيادة الوطنية سواء على نطاق الأرض أو نطاق الاقتصاد، فالاحتراب في الخليج الذي أتى بها صدام حسين مثلا كلف دول المنطقة، حسب “كلود شيسون” وزير خارجية فرنسا الأسبق، 500 مليار دولار، ثروة جمعتها هذه الدول لعقود من الزمن ذهبت تلقائيا لخزائن الدول المصنعة للسلاح في سنوات، وتلا ذلك ما تلاه من حصول الدول الكبرى على قواعد، ومعاهدات وتسهيلات في المنطقة.
ولا زالت هذه الدول تشجع الاستقطاب والاحتراب في المنطقة لأنه أفضل وأنجع لخدمة مصالحها من حل مشاكل المنطقة. وعلى القارئ الكريم أن يتصور مردود هذه المبالغ لو صرفت على مشاريع تنموية بدلاً من تكديس السلاح للتربص بالخصم. ولكن هذا يتطلب الحكمة وتجاوز الاختلاف إلى النظر للمصالح المشتركة للشعوب بدلاً من التركيز على الاحتلافات الطائفية الضيقة، فالصراع الذي تغذيه الدول الكبرى في منطقتنا رغم ضخامة حجمه، والعواطف الجياشة المحيطة به، يدور حول أمور مذهبية، يمكن القول عنها إذا نظرنا لها بعين العقل والعصر، أمور تافهة تدور حول خلافات طقوسية وليست حتى عقدية. أمور يتم تغذيتها بما يشبه الأساطير التاريخية، لتبدو وكأنما هي أمور مصيرية. والمحزن أن الحقيقة المغيبة هي أن الإسلام واحد، وهو دين متسامح يشجع التعايش والحوار، ويكفل الاختلاف، ومن أكثر الديانات دعوة للتوافق، وأكثرها نبذا للاستقطاب وفي القرآن الكريم تشديد على ذلك: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (13) سورة الحجرات، أي أن القرآن ضد جميع الممارسات التي تفرق بين الناس أو حتى بين الذكر والأنثى. ويمكن القول: إن ما دار ويدور في منطقتنا من صراعات هي مخالفة لهذه الآية الكريمة.
ويستغرب بعضهم لما لا تتدخل دول كبرى غربية أو شرقية لإصلاح أمورنا، ومنع احترابنا، أو إنقاذ شعوبنا؟ ولكن السؤال الأهم هو، لماذا احتربنا نحن فيما بيننا في المقام الأول؟ فالغرب وغيره لا يرغب في إنهاء صراعاتنا ما دام يستفيد منها مادياً، وايديولجياً، وتاريخياً، ولا نستطيع لومه في ذلك لأننا قدمنا أنفسنا لقمة سائغة شهية له وذلك باعتمادنا على النظرة الاستقطابية في أمورنا، وبتضخيمنا خلافاتنا على حساب توافقنا، وبتركيزنا على المصالح الفئوية الضيقة مقابل المصالح الاستراتيجية الكبرى. فداؤنا من ردائنا، والخلل منا وفينا، فهل يعقل أن نتصارع حول مسائل إيدلوجية حصلت قبل 14 قرنا، ونتجاهل واقعنا وحاجتنا الماسة للتطوير والتنمية؟ هذا هو الاستقطاب في أخطر صوره!
latifmohammed@hotmail.comTwitter @drmalabdullatif- أستاذ في جامعة الملك سعود