ومن المُسْتفيضِ أن (الفواتير) تنوَّعت، وتعددت، وأصبحنا نعرف منها وننكر. وانعكاسات الأوضاع العربية على أحوالنا باديةٌ للعيان. بل نكاد نشك في جَدْوى التمترس خلف طوفان النفط، ولربما نرهقه صَعُوداً، ثم لا نجده في ساعة العسرة.
وحين لا يكون، لا نكون. لأننا في نظر صُنَّاع الفتن، كما لونه وطَعْمه ورائحته: أسود، نتن، أجاج.
وتواصلُ الحروب الأهلية، والطائفية، والثوراتُ الحمراء، وحضورُ الاستكبار العالمي، وخَوْفُ الجار من جاره، كل هذا جعل المشاكل تسْتحكم حلقاتُها، ويَصعبُ احتواؤها.
ولقد أشَرْت من قبل إلى استباق “الصَّفوية” و”العثمانية” على المتردية العربية، لملء الفراغ الذي تركته مصر بخروجها على الصف العربي، بعد أحداث النَّكْسة، ومعاهدة (الكانب).
والصَّفوية الأخطر شدَّت عَضُدها الطائفية الشيعية، والعنصرية الفارسية، ورواسب المجوسية، ودول ،وأحزاب تَظُنَّ أن رَحِمَ الطائفية آمَنُ مِنْ رحم الإسلام.. إن الخليج بأمْنه، واستقراره، ورخائه طريدةُ كل الطامعين، وهدفُ كل اللعب، وهو الذي يدفع (الفواتير)، ويتجرع المرارات. وإذا مُدَّت الأيدي إلى الغنائم، لم يكن بأَعْجلها.
والقارئ النبيه لأحداث التاريخ الإسلامي، يقف على المُصْميات، المتمثلة بالصراع العنصري بين (العرب) و(الموالي)، بَعْد أن جاء المُلْكُ العضوض. وبين (العرب) و(الفرس)، بعد أن أسهم الفرس في سقوط (الخلافة الأموية).
وحين استفحلت العنصرية الفارسية، تَوَسَّل العرب بالعنصر التركي، بعد ضعف العصبية العربية. وعلى يد الأتراك فَشلَتْ العروبة، وذهبت ريحها، وخرجت من قصور الخلافة، بعد مجيء عصر الدول المتتابعة. والتاريخ يُعيد نفسه، فإذا كانت (الأندلس) قد ضاعت بالتناوش بين الدُّويلات، فإن العرب يُمارسون ذات الطريقة التي مارَستْها الدويلات المتناحرة من قبل.
وكم نحن بحاجة إلى استعادة مقولة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: (أكلت يوم أكل الثور الأبيض). عسى أن نستبين النصح قبل فوات الأوان. لقد التَفَّ حبل الفجيعة على عنق الخليجيين، وتَعَرَّت الطائفية. وأطياف الخليج كفقهاء (بيزنْطة) في مِرَاءٍ ظاهر وباطن.
والراصد النَّبيه يرى أن الأوضاع العربية تُهرول باتجاه الهاوية.. والأعداء المتربصون يتحسسون مناطق الضعف للإجهاز على الطريدة المنهكة. إن الدول التي أُسقِطت أنظمتُها، لمَّا تزل تعيش أجْواء الثورة، وحين لا تَحْسِم تلك المرحلة، تتعطل كل المشاريع، وتتجمد كل الحركات، إلا حركات التدمير والفوضى. ولما كان الخليجيون تُجْبى إليهم ثمرات كل شيء، وهم على شيءٍ من اليسار، ودَعْمُهم السخي يُغْني أشقاءهم عن استجداء الآخر، فإنهم في غفلة عما يدور في المشاهد.
ومن ثم دُبِّرت لهم المكائد، وأغريت نخبهم بفتح ملفات كانت مغلقة، وتَحَكَّم في طوائفهم، ومفكريهم، ومذاهبهم من لا يألوا جُهداً في الوقيعة بينهم.
والغريب أن الخليجيين ليسوا على قلب رجل واحد. ومحاولة الانتقال من التعاون إلى الاتحاد، تكاد تكون من أحلام اليقظة، مع أنها الفريضة الغائبة. إن هناك مُصْميات نَسْمع حسيسها، ونُراهن على أنها أعناق الفتن، تنهض من كل مجثم، ومع ذلك لم نرتب أمورنا، لنكون في مستوى الأحداث.
لقد نُبِّه المُتدِّينون، وضُخِّمت الأمورُ أمامهم، وألقي في روعهم أن كلَّ فعل هدفه الإقصاء، واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير.
ونُبِّه (الليبراليون) وأشْعِروا بأن المتدينين أعداء ما جهلوا.
وأذكيت الطائفية، وفُرِّقت كلمة الأطياف، وصار بأسهم بينهم شديداً، عبر كافة وسائل الاتصال.
ولو عَقَلَتْ أطياف الخليج، وأتْقَنوا سَبْر قواعد اللعب القذرة، لكان بالإمكان تخطي المنعطف الخطير.
ولو تُرِك الخليجيون وشأنهم، لسارت أمورهم على ماهي عليه من قبل: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ}.
فنحن في (المملكة العربية السعودية) على ما كان عليه آباؤنا وأجدادنا، نعيش بمختلف أطيافنا، وطوائفنا، ومشاربنا، والمقيمين بيننا من غربيين في تلاحم، وتعاون، ووئام. وماكنا متناحرين، ولا مُسْتَعدين، ولا مُصَنِّفين، ولا متدخلين في شئون الغير، وما كانت الجهات الأمنية إذ ذاك بحاجة إلى متابعة أحدٍ أو مساءلته.
بل لم نكن نَعْرف إلا إداراتها الخِدْمية، كالجوازات، والمرور، والدفاع المدني، والأحوال.
أما وقد حَرَّكَتْ ضُعفاء المواطنة (أجِنْدةٌ) خارجيةٌ، فقد بَدَتْ وزارة الداخلية بشكل لم نكن نألفه من قبل.
ذلك لون من ألوان الانفلات العربي، ما كان الخليجيون يَسْتهدفونه، وما كانوا مضطرين إلى شيء منه.
لقد كان المهندسون الأجانب، والمنقبون عن النفط من الغربيين، يخالطوننا في الأحياء، والأسواق، وبطون الأودية، ومنابت الشجر. وكان أبناء الشيعة يملؤون الأسواق، والمتاجر، والمزارع، لا يُسأل أحد، ولا يُضارَّ أحد، ولا يُخَافُ أحد. كلٌ يعمل على شاكلته، وبين هؤلاء وأولئك الدعاة، والوعاظ، والمحتسبون، يدعمهم القاصي والداني، ويهابهم الجميع. وأفراد الحَسْبة على معرفة تامة بحدود مسؤولياتهم، لا يشكُّون بأحد، ولا يتحسسون، ولا يتجسسون، ولا يسيئون الظن، ولا يتعدون حدودهم، وما من أحد يضيق بهم، أو يتذمر منهم. والمريبون يُخْفون خطيئاتهم، ولا يبدون صفحتهم. والحياة كلها هادئة مطمئنة.
أما اليوم فكل شيء قَلقْ، وكل طَيف مُحْتَقِن، والعدو يحرك هؤلاء وأولئك، ولا يَعْنيه بأي وادٍ هلك هذا، أو ذاك.
المصالح، والمطامع، ومناطق النفوذ هي التي تحرك الفتن، وتحرض كلَّ طائفة على أختها. ومع وضوح اللعبة فإننا عنها غافلون.
- فمن سيدفع (الفاتورة) المعنوية..؟.
الأنكى من كل ذلك أن بإمكان الخليجيين أن يبتعدوا عن الفتن، وبإمكانهم أن يتحدوا، ليحولوا دون التفاف الأفعى الطائفية على أعناقهم، ولكنهم لم يفعلوا.
وإذ تحملوا (فاتورة) الانفلات العربي، فإن عليهم أن يصطلحوا مع أنفسهم، ليتجاوزوا ما يبيته لهم أعداؤهم.
- فهل يَسْتَبينون النصح، ويَتداركون عبساً وذبيان قبل أن يتفانوا..؟.