كانت العامة في فصول التاريخ العربي ضحية من ضحايا ملاك الحقيقة المطلقة، وكانت الطائفية الدينية أحد أهم هؤلاء الملاك وعامل مؤثر في أزمة الافتراق العربي بعد عقود من الاتحاد تحت راية الإسلام، وكانوا يؤدون دور الجنود التي تحارب وتموت من أجل مصالح غيرها من القيادات الطائفية، وكان الخطاب الطائفي أداة فعّالة في تطويع المصالح السياسية، وغطاء يشرعن المصالح الاقتصادية، وقد تحولت في التاريخ العربي قبائل من طائفة إلى أخرى بسبب المصالح المادية والسياسية، بل إن بعض القبائل العربية اعتنقت مذاهب تدخل في حكم الشاذ والخارج عن مفهوم الدين الأصولي مثل القرامطة وغيرها، وحدث ذلك بسبب الاستئثار الكامل بالمصالح والأموال من قبل طائفة أخرى، تعتقد أنها تمثل الحقيقة الدينية المطلقة.
لذلك لا أستغرب قيام الثورة مرة أخرى في مصر ضد الأخوان الذين كانون يتمثل أعضاؤها بهيئة المتدين القريب إلى الله عز وجل، والقابض على دينه من دون العالمين، لأن الكيل قد طفح بسبب محاولات السيطره لطائفة الأخوان على مفاصل الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقضائية في البلاد، فكان الخيار الشعبي أن ينحاز مع الخطاب القديم الجديد، والذي نتمنى أن لا يحمل في ثناياه طائفية سياسية جديدة مثل اليسارية الناصرية، والتي تمثل أحدى إخفاقات المرحلة العربية المعاصرة، وعانى بسببها الشعب المصري والعربي من النكسة والهزيمة والخطابات النارية الفارغة.
ما يجري في مصر ليس خصوصية مصرية بل أزمة بلاد عربية بامتياز،،قد أصبحت أغلب الأوطان العربية عرضة للتمزق بسبب الطائفية، وفي لبنان المثال الصارخ والواضح جدا على فشل ذلك النسق الثقافي الذي ابتلينا به منذ قرون عديده، وما يحدث في مصر الآن وقفة شعبية مثالية ضد الطائفية، وإذا نجحت في الوصول إلى أهدافها ستكون نقلة مدنية تاريخية في العالم العربي، وربما تفتح الباب أمام المتغيرات الكبرى في هذا الجزء من العالم، وستحدث من خلالها النقلة التاريخية الأهم، والتي ربما ستخرج العامة من خانة الأدوار الهامشية إلى أداء الأدوار الرئيسية في الأوطان، والتي كانت تقوم بها في السابق، وبامتياز خاص، الفئة أو الطائفة أو النخبة التي تعتقد أن لها الحق المطلق في الحكم السياسي.
أيضاً ليست الأزمة في سوريا حرباً بين طوائف كما يحاول النظام أن يروج لها، ولكن صمودا شعبيا مدنيا غير معهود ضد أشرس وأعنف حكم طائفي في العالم العربي، والحكم الطائفي في سوريا مختلف، لأنه كان يحكم من خلال منطق شمولي آخر، وهو البعث العربي، بينما تحكم الحزب الحاكم طائفة دينية سرية بالحديد والنار، وما يحصل الآن في العراق مثال أكثر عنف وشراسة، فالطائفة الحاكمة هناك تجند العامة ضد الطوائف الأخرى، والمعارضة الطائفية تعارضها بنفس المنطق، بينما الخاسر الأكبر هو الوطن والمجتمع بمختلف ألوانه، والعراق يحتاج إلى موقف شعبي موحد ضد زعماء الطوائف من أجل تجاوز أزمة الفرقة.
وصل الوعي إلى مرحلة متقدمة في بعض بلدان العالم العربي، وأصبح المواطن يعي وجوه الاستبداد الديني والفكري والسياسي، وهو أن تتمثل الحقيقة والأحقية في صور محددة، تحكمها هيئة ثابتة، وخصوصية طائفية، ومنهج مطلق للحق، ولا بد من أحداث التغيير، ولا يطول الهروب من خيار المشاركة الشعبية في مجالات الحكم بمختلف اتجاهاتها التشريعية والقضائية والتنفيذية، ثم العمل على تقويض هرم الحكم الطائفي الذي يحتكر القضاء والإعلام والخطاب العام في الوطن، وربما لا زال لتلك الحقبة بقية بسبب ضعف الثقافة المدنية في بعض المجتمعات، وبسبب هيمنة العقل الطائفي في الدولة، كما هو الحال في إيران، وغيرها مما يحتكم إلى الأرث الطائفي في السيطرة..
لكن يوما ماً سيفقد العقل الطائفي جاذبيته وخطابه البكائي لاستجداء عواطف العامة في المجتمع، وسيحدث التغيير المدني في مختلف بلاد العرب، والجدير بذكره في آخر سطور هذه المقالة أن الموقف الشعبي المضاد ضد محاولات سيطرة الأخوان المسلمين في بعض البلاد العربية لا يعني أنها الطائفه الأوحد في البلاد العربية، ولا يجب أن يُفهم أن البنية الدينية والسياسية للطوائف الأخرى في بقية الدول العربية والإسلامية أصلح وأفضل للبقاء، لأن الداء البغيض الذي لا ينتج إلا التطرف والفرقة هو الطائفية بكل ما تعنيه الكلمة.