معظم اشتغالات الفقيه كما تقرر الملامح المألوفة للخطاب الفقهي منصرفة نحو الحركة اليومية المتصلة بمجال العبادات والمعاملات للعمل على ترشيدها ودفعها نحو المسار الصحيح. والجماهير تتعاطى معه بوصفه مرجعية مؤثرة ومعتبرة في معرفة أحكام التشريع والإلمام بأدبياته، وهذا التعامل الواسع مع مختلف الشرائح نخبوية كانت أو جماهيرية يحتاج إلى درجة عالية من الألمعية والفطنة وقراءة ما بين السطور إبان التعاطي مع الأسئلة وممارسة التوجيه والفتوى، فلا يقف عند القشور ولا تنطلي عليه الظواهر ولا يغيب في الجزئيات بعيداً عن الكليات، بل يغوص في المقاصد ويتجاوز العبارات للإبحار في معانيها الماورائية حتى لا يكون أحد المناطات لذلك الحديث الشريف: «رب حامل فقه ليس بفقيه».
حينما يكون الفقيه ضعيف الفطنة أو معدومها، فإنه يسهل استغفاله والتفنن في تضليله وقلب الحقائق عليه ومن ثم إيقاعه في الفخ ودفعه لممارسة نوع من الاصطفاف هنا أو هناك، فتروج عليه الحيل ويصبح صيداً سهلاً تنطلي عليه أساليب المكر الخادعة، فالكاذب يلعب أمامه دور الصادق، والمتلطخ بوحل الخيانة يمثل شخصية المتربع على قمة النزاهة، والمبطل يبدو أمامه وكما لوكان الناطق الرسمي باسم الحق الأبلج، والظالم يتجلى له بصورة المظلوم، وهكذا دواليك حتى يغيب هذا الفقيه الغر عن الواقع، بل ويبيت فاعلاً أساسياً في عملية تزييف واسعة لا تفتأ تعمل على تكريس التخلف وعلى إعادة إنتاج مولداته. وهذا ما أشار إليه الإمام (ابن القيم) مقرراً أنه يحرم على الفقيه «إذا جاءته مسألة فيها تحيل على إسقاط واجب أو تحليل محرم أو مكر أو خداع أن يعين المستفتي فيها ويرشده إلى مطلوبه أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصوده، بل ينبغي له أن يكون بصيراً بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم، ولا ينبغي له أن يحسن الظن بهم بل يكون حذراً فطناً فقيهاً بأحوال الناس وأمورهم... وكم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه وتنميقه وإبرازه في صورة حق، وكم من حق يخرجه بتهجينه وسوء تعبيره في صورة باطل؟ ومن له أدنى فطنة وخبرة لا يخفى عليه ذلك بل هذا أغلب أحوال الناس»ج2ص459 (إعلام الموقعين).
التحلي بقدر كبير من الحذق وارتفاع مستوى النباهة هو الذي يجعل من صاحبه مدركاً للكثير من الأساليب الملتوية، فيدرك أن هناك أسئلة تستبطن مضمرات إسقاطية تسوق الفقيه باتجاه إجابات معينة, ويعي أن هناك متلقياً يستغل الإجابات المختزلة, وهناك على العكس من يوظف الحديث المطول والعبارات الفضفاضة توظيفاً بالغ المكر، وهناك من يتلقى المقول بشكل حرفي، وهكذا ألوان من الذهنيات المتباينة إن على مستوى الفهم أو على صعيد المنطلقات الأمر الذي يفرض على كل من تصدى لتوجيه الشأن العام أن يتوخى الدقة في أحكامه واستنتاجاته ومفردات خطابه، وهذا لا يعني أن يتحرك في مناطق معتمة فيطلسم إجاباته، ولا أن يناور وكما لوكان دبلوماسياً يتجشم عناء الفعل السياسي, ولا أن يكون متردداً متأرجحاً متلوناً لا يكف عن استعراض الأقنعة، وإنما يعني أن يكون واضحاً شفافاً ذا مصداقية عالية ومنهجية منسجمة ومقاصدية متماسكة، لا يتسرع في إصدار الأحكام ولا ينحو إلى نحو من الاختصار المخل الذي قد يفهم على غير وجهه، كما أنه أيضاً لا يعمم على نحو فضفاض قد لا تتحمله مساحة الواقع.
abdalla_2015@hotmail.com