فيما تناولته المرة الماضية بشأن التوقف والتأمل ومعاودة جرد الحساب، كنت قد أشرت إلى نواح إنسانية اجتماعية ونفسية بخصوص هذه الظاهرة. وكنت قد قسمت الموضوع إلى مستويين كبيرين؛ أحدهما يتعلق بقضايا مصيرية، يسترجع فيها المرء قرارات مصيرية غيرت حياته، ويستشرف رؤى ما تكون عليه الحال لو اتخذت حياته مساراً آخر في أي من تلك المفاصل المهمة. ويرتبط المستوى الآخر بقرارات محدودة الأثر؛ يدخل فيها ترجيح المصالح، وحسابات الخيارات الأفضل في أي منها، لكن دون تغير جذري بسبب اختيار أي منها.
وقد شهدت مع بعض الرفاق في الأيام الماضية توديع أولادنا، ليدخلوا برنامجاً علمياً في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (كاوست). صحبت عملية التوديع تعريفنا بما سيجريه طلبة البرنامج من أنشطة، وتقديم لرؤى الجامعة وإمكاناتها في هذا الشأن. فكانت نتيجة هذه المحاضرات التعريفية بما يستطيع شباب اليوم أن يمارسوه، ويحصلوا عليه من إمكانات ذات آفاق واسعة في العلم والرياضة والمعرفة بكل أشكالها، إن أحس عدد من الكبار بالغيرة مقارنة مع أوضاعهم البائسة التي مروا بها، وقلة الإمكانات التي كانت تتاح لهم في مجالات الحياة المختلفة.
فقد قال أحدهم: آه لو يعرفوا، وش كنا نعمل، لما نشوت الحجارة واحنا نلعب! وما فيه يوم ما يرجع الواحد منا، والدم يسيل من ركبته أو يده، أو ورم في رأسه. أما الجو اللي كنا نلعب فيه، فهو أقرب إلى الخبصة من التراب والرطوبة منه إلى الملعب النظيف. وتحسر آخر على بعض الإمكانات للحصول على وسائل المعرفة، ومسايرة العالم المتقدم من خلال معامل حديثة، ومحاضرين متميزين من شتى بقاع العالم، وجو علمي مريح لا تكدره الأصوات والروائح المزعجة من حول المكان، الذي كانوا يتلقون فيه العلم.
كما شعر بالحرقة عندما قارن اهتمام أولياء الأمور المرافقين بأولئك الشباب المتحفز للحياة والعلم، والمقبل على وضع يختلف عن أوضاع الأجيال السابقة مع أوضاعه؛ حيث كان أولياء الأمور يلقون على الصغار مسؤوليات جسام، ولا يهتمون بتحفيزهم إلى أي شيء، ولا يوفرون لهم ما يدفعهم إلى الأمل في مواصلة مشوار البناء والطموح إلى الأفضل. هذا عدا عن الأعداد الكبيرة في الأسرة الواحدة، التي لا يجد المرء من كثرتها مكاناً للراحة، أو فضاء للإبداع؛ بل وأحياناً حتى الكفاية من متطلبات الحياة الرئيسة.
تساءلت بعد ذلك: ما الحدود الفاصلة بين اتخاذ القرار في شأن من شؤون الحياة، وحالات التأثر بذلك القرار آنياً، أو في مراحل متأخرة من الحياة؟ وكان التساؤل باعثاً على التفكير في ارتباط هذه الظاهرة على وجه الخصوص بعدة عقائد دينية في الشرق القديم، وفي بعض الأديان الحديثة. كما تواترت إرهاصات هذه المشاعر في فلسفات قديمة وحديثة أيضاً، خاصة فيما يسمى Esoterics، وكل تراكمات أفكار تناسخ الأرواح، وتعدد الحياة للإنسان بأشكال مختلفة، وفي بيئات حياة متنوعة في بعض تلك الموروثات الفكرية.
وبالطبع بعض المؤمنين بتلك الفلسفات أو الأديان يظن بأنه متى ما عمل أعمالاً صالحة، فإنه يكون مهيأ لاختيار الصورة، التي يظهر بها في حياته المقبلة، أو على الأقل ألا يتحول إلى بعض أشكال الحيوانات الخسيسة في ثقافته. فتكون بذلك دافعاً له إلى الارتقاء بأفعاله.
ما أكثر ما يخطئ الإنسان، ويندم على فعله؛ لكن أسباب هذه الظاهرة تكمن في كون الناس لا يريدون حصر مسؤولياتهم عن أفعالهم على ذواتهم، فيقررون رمي المسؤولية على قرارات جعلتهم يوجدون في المكان أو الزمان الخاطئ. فالبشر في كل تاريخهم رزمة من الأنانية بامتياز!
الرياض