قد لا اتفق اقتصاديًّا مع وزير العمل من النَّاحية النظرية في بعض قراراته، لكنَّني لا أجزم بخطأ هذه القرارات. وما ذاك لعجز النظرية الاقتصاديَّة، فالنظرية الاقتصاديَّة مثبتة رياضيًّا بناءً على مشاهدات ومعطيات لا تَتَغيّر -في مجتمع مُحدَّد وزمن محدَّد- تحكي إرادة الله الكونية في ديناميكية السوق. وإنما تخطئ النظرية الاقتصاديَّة عند غياب بعض المعطيات المؤثِّرة وتخلف بعضها الآخر، مما لا يدركه من هو مثلي بعيد القرار وعمّا يدور خلف الأبواب المغلقة، ولذا فأنا لا أجزم بخطأ بعض هذه القرارات من النَّاحية العملية.
وبعد أن أوضحت موقفي النظري الأكاديمي المخالف لبعض قرارات وزير العمل، فلا بأس علي الآن أن أقف مع فلسفة تأمَّلية لمهنية وزير العمل كوزير تنفيذي. وللعلم فأنا اكتب من منطلق محايد تمامًا. فأنا لا أعرف الوزير ولم التق به وليس لي أيّ مصالح مع وزارة العمل حاليًا ولا مستقبليًا.
رجال الأعمال في بلاد العالم كلّّها هم أقوى قوة مؤثِّرة في وضع السياسات والقوانين وفي توجيه الرَّأي العام في كثير من المسائل، وفي حياكة الدين والأخلاق على الثَّوْب الذي يتماشى مع مصالحهم. وهذا وضعهم في أمريكا والغرب الديمقراطي. وأما وضعهم في البلاد غير الديمقراطية فهو أشد قوةً وتحكمًا، فلا صوت للشَّارع يُسمع في تلك البلاد. ولا يختلف هذا بكون رجل الأعمال وطنيًّا أو كريمًا أو نحوه، فالمصلحة -غالبًا- تحكم طريقة التفكير، وتجعل من صاحبها يَرَى منطق الأمور من خلالها.
ووزير العمل من قدامى المحاربين من رجال الأعمال، يظهر -من أفعاله -أنَّه لم يكن يرغب في تولي منصب من المناصب العامَّة ولكنَّه -والله أعلم- عندما كُلف امتثل للواجب الوطني وتحمل المسئولية الوطنيَّة العامَّة فأصبح له حالاً وشأنًا يختلف عن حال وشأن رجال الأعمال.
وأعتقد أن هذا هو أهم مكوِّنات سر قُوَّته. فزهده في كرسي الوزارة -على ما أعتقد من ثباته ووقفاته أمام لوبي رجال الأعمال- جعله يواجه رجال الأعمال وهو الأخبر بهم وبقوة تأثيرهم على الإعلام وعلى الرَّأي العام -فهم أصحاب المال والمعارف والمصالح والجُلساء والمتحدثون في المناسبات العامَّة والخاصَّة-.
وكون الوزير من عمالقة رجال الأعمال سابقًا، جعله يدرك ما هو القرار الذي سيؤذي رجال الأعمال حقًا، وبالتالي يؤثِّر سلبًا على الإنتاجيَّة الوطنيَّة. فلا أظنه سيتخذ قرارًا يمكن أن يُؤدِّي إلى إنقاص الإنتاجيَّة الوطنيَّة العامَّة.
إن جمع الوزير بين خبرته هذه واستشارته للمستشارين مع اهتمامه بالإعلام والصحافة وتحدثه إلى الشارع وزهده -والله أعلم- في المنصب جعله يستحقُّ لقب الوزير القوي. فقد مرّ بنا في وزارات أخرى وزراء أقوياء في جوانب، وضعفاء في جوانب أخرى. فقد رأينا المُبدع الخَّلاق الذي لم يكن يبالي بكرسي الوزارة ولكنَّه أهمل الشارع بالكلية، فأسقطه الرَّأي العام وخسر الوطن بذلك أحد أعظم وزرائه. ولقد رأينا الزاهد في الوزارة الكاره لها إلا أنَّه كان ضعيفًا، في المواجهة وقليل الحيلة، فلم يقدم شيئًا ولم يؤخر. وقد رأينا من جمع بين الزهد في المنصب وبين المحاسن كلّّها ولكنَّه لم يستطع أن يقف أمام تنفيذ قراراته. ولكننا لم نرَ من قبل من يجمع بين الزهد في المنصب وقوة الموقف وخبرة في المجال واتِّخاذه لقرارات حاسمة وتغيّيرات مؤثِّرة واحتكاك بالشارع وتفاعل مع الإعلام كمثل هذا الوزير من قبل. وقد يكون الوزير قد تعلم من أخطاء بعض من سبق، ولكن هذه شهادة له بأنّه يتعلم ويستفيد مما يتعلمه. والزهد في المنصب لا يعني عدم المبالاة بالفشل أو بإهمال المسئولية.
إن هذه الرِّسالة ليست للعامة، وليست هي للوزير كذلك. بل هي لِكُلِّ من يتحمل المسئولية العامَّة. أزهد في المنصب واستشر الأكفاء واصنع القرارات وتفاعل مع الإعلام ومع الشارع وأصبر عليه فهو لا يعلم، ثمَّ اتّخذ بعد ذلك القرارات الحاسمة وقف عندها شجاعًا صابرًا، فبهؤلاء الرِّجال تبنَّى الأوطان وتُخلد الأسماء.
hamzaalsalem@gmail.comتويتر@hamzaalsalem