القراء من الذين أتشرف دوماً بقراءتهم لما أكتبه يرون أنني أركز على إبراز الجانب السلبي في ممارسات وسلوكيات أفراد المجتمع السعودي متناسياً الإتيان على ذكر الكثير والكثير من الجوانب الإيجابية التي يتحلى بها أفراد المجتمع السعودي.
والأمر يجب ألا يُنظر له من هذه النظرة الضيقة والانتقائية، وإنما هي محاولات لتسليط الضوء على بعض جوانب القصور في بعض من الممارسات الاجتماعية والسلوكية التي نحن بحاجة ماسة إلى إعادة النظر فيها، ومما يدفعني إلى الإصرار على طرح رؤى تجلّي حقيقة تعاطينا الخاطئ في بعض من جوانب ممارساتنا الاجتماعية أن هناك مَنْ يرفع شعار الإنكار وعدم الإقرار بهذه الوضعية أو تلك وكأن بيننا وبين الخطأ سداً منيعاً يصعب اختراقه.
وهذه النوعية من الناس يغيب عنها أنه لا يوجد مجتمع مثالي على وجه البصيرة، ونحن في النهاية مثلنا مثل أي مجتمع في العالم لدينا الجيد والرديء، ومن هنا كان حرياً بنا بدل محاولة الإنكار المستميتة تلك مواجهة أنفسنا والاعتراف بقصورنا، ومن ثم العمل على معالجة أخطائنا، والتفكير في إيجاد الوسائل والسبل المعينة على تلافيها والقضاء عليها.
ليس من باب المبالغة حين القول إننا أشبه ما نكون بأمة تعيش على جبل من التناقضات حتى أضحى التناقض توأماً للكثير من سلوكيات أفراد مجتمعنا، فما أن يُذكر مجتمعنا إلا وتكون صفة التناقض العلامة البارزة التي يُشار فيها إليه بالبنان، وهذا لا يأتي في سياق التجني والتهويل واختلاق واقع غير موجود على أرض الحقيقة ومن يعتقد بخلاف ذلك فلنصعد نحن وإياه إلى رأس قمة الجبل لنبصر من علٍ بعدسات فاحصة عدداً من الممارسات والسلوكيات الاجتماعية والثقافية والفكرية التي تؤكد هذا الادعاء وتثبت التوأمة.
نقول في العلن إن المرأة أمنا الحنون، وأختنا العزيزة، وابنتنا الغالية، وتوأم روحنا زوجنا، بل إننا نعلن وبأعلى صوتنا بأنها اللؤلؤ النفيس، ونصر على أن مجتمعنا لا يمكن أن تقوم له قائمة ويعلو بنيانه بدون حضورها وإسهامها ووقوفها القوي إلى جانب نصف المجتمع الثاني الرجل، هذا ما نقوله في العلن، ولكننا في الحقيقة لا نطبق على أرض الواقع؛ والحقيقة هذه المواقف والقناعات المعلنة على رؤوس الأشهاد، ومن بين أبرز السلوكيات التي نمارسها بحق المرأة السعودية التي تدحض من يعتقد أننا نطبق ما نعلنه للملأ أنها بحاجة إلى أخذ الإذن من الرجل في كل شاردة وواردة تمس شأناً من شؤون حياتها، يستوي في ذلك صغير الأمور وكبيرها، واستغلال الأب لسلطته وحرمانه بناته الموظفات من الزواج طمعاً في مرتباتهن، وابتزاز الزوج للزوجة بالتعدي على راتبها، وممارسته العنف الجسدي المتمثل في الضرب والإيذاء الجسدي، ومحاولة قهرها عن طريق تطبيق بعض الأعراف الاجتماعية الجائرة، بل إن قمة التناقض بين ما نقوله ونعتقده ونمارسه بحق المرأة يتجلى في أن الكثير منا يتحاشى مجرد الإشارة إلى اسم المرأة صريحاً ويستعيض عن ذلك بالقول (العائلة أو الأهل)، لذا فعلى الرغم من كلامنا الجميل المنمق عن المرأة، فإن الكثير من الرجال لدينا يعاملون المرأة كسلعة غالية يحق له التصرف الكامل فيها من غير إعطائها حقوقها التي كفلها لها الشارع الحكيم، ومحاولة تغييب خياراتها وحقوقها كإنسان له كيانه واستقلاليته، وذاتيته، ورغباته، وله كامل الأهلية خالطين في ذلك بين تعاليم الإسلام، وسيطرة العرف الاجتماعي.
تجدنا داخل النطاق الجغرافي للمملكة نتمسك وبقوة بتعاليم ديننا القويم وبعاداتنا وتقاليدنا، وننأى بأنفسنا عن القيام بأي عمل يبدو مخالفاً لما نؤمن به، ولكن هذا الامتثال ينقلب رأساً على عقب حالما نخطو بأقدامنا خارج حدود الوطن، فنقدم على ممارسة سلوكيات تخالف صراحة ما أوصى به ديننا السماوي، وما نادت به عاداتنا وقيمنا الأصيلة، وهذا يجلي صفة التناقض الجذري بين التعاليم الإسلامية التي توجب التقوى، والممارسات التي يقوم بها الأفراد رجالاً ونساءً متى ما حطت أقدامهم خارج تراب الوطن، وكأنهم ارتضوا لأنفسهم أن يعيشوا ولو مؤقتاً في عالم وعصر مختلفين يتطلب معهما الحال أن ينقلبوا على القيم والمبادئ التي يؤمنون بها ويمارسونها محلياً.
ومن صور التناقض العديدة التي تجعل المرء يؤمن في أوقات أن التناقض لا محالة بصمة جينية لدينا، أو بلغة أهل التجارة ماركة مسجلة باسمنا، أننا في أدبياتنا وحواراتنا نقدس العمل الشريف الذي يدر علينا دخلاً نقتات منه، ولكننا نبرأ بأن نسمح لأبنائنا وبناتنا العمل بأية وظيفة، بخاصة ذات الطبيعة الخدمية والمردود المالي القليل، ومشهد آخر نجده في أن الكثير منا مصلٍ، صائمٌ، مؤدٍ لفروضه، وواجباته الدينية، ولكنه يغش، ويكذب، ويقطع رحمه، وكأن هناك انفصاماً تاماً بين ممارسة الشعائر الدينية، والسلوكيات التي تترتب على الإيمان بها، وإلى جانب ذلك نجد مَنْ يدعو غيره إلى الخير ولا يفعله، وينهى غيره عن المنكر ويفعله، وهناك أيضاً جانب آخر يتمثل في أن عدداً كبيراً من أفراد المجتمع السعودي يرفع شعار التعامل وفق النظم واللوائح المنظمة لشؤون حياتنا طالما أنه ليس طرفاً فيها، ولكن حالما يكون هو المستفيد الأول فلا ضير في تخطي تلك النظم واللوائح حتى وإن احتاج الأمر الالتفاف والبحث عن واسطة غير مشروعة تتجاوزها وتتخطاها, ونجد ذلك أيضاً حاضراً في مثقفينا الذين يرفعون شعار الرأي والرأي الآخر، ولكن بمجرد عدم الاتفاق مع أطروحاتهم وتوجهاتهم يجد المرء سهامهم وقد صُوِّبت نحو نحور تلك الآراء المخالفة لما يرونه، لا لسبب إلا لأنها لا تتوافق مع ما يرونه، وهناك الأساتذة الذين يرفعون شعار الديمقراطية داخل قاعات محاضراتهم داعين من خلالها أبناءهم وبناتهم الطالبات إبداء وجهات نظرهم بحرية مطلقة تجاه طريقتهم في التعليم، وآرائهم العلمية تجاه بعض القضايا، ولكن الواقع بشهد بأن مَنْ يتجرأ على القول بدون مواربة وبكل صراحة وأريحية يطاله العقاب الصارم الذي ليس أقله الإخفاق في مادة ذلك الأستاذ. وهذا الاستعراض المقتضب يظهر أن التناقض منعكس على كل مفصل من مفاصل حياتنا.
وهكذا فصفة الاختلاف، أو عدم التوافق بين القول والعمل، أو الاعتقاد والممارسة تمثل ممارسة اجتماعية سلبية بارزة في مجتمعنا السعودي، فالكثير منا يُعبر عن رأيه تجاه أمر ما، ولكن هذا التعبير المبني - في معظم أحواله - على قناعة يتناقض مع ما يمارسه صاحبه في الواقع المعاش، نحن لا نطبق ميدانياً ما ندعو له ونبشر به نظرياً، وهذه الممارسة السلبية يمكن ملاحظتها كما تمت الإشارة إلى بعض منها آنفاً في العديد من ممارساتنا الاجتماعية، فنحن ظاهرياً نلتزم بتعاليم ديننا وعاداتنا وتقاليدنا، ولكننا نمارس على الأرض ما يتناقض تماماً مع تلك المبادئ والقيم التي نعلن أمام الملأ أننا معها قلباً وقالباً.
وعند البحث عن الأسباب الموجدة لصفة الاختلاف، أو عدم التوافق بين القول والعمل، أو التناقض الصريح بين ما يقوله المرء ويعمله نجده يعود إلى الازدواجية، أو عدم الاستقرار التي أدت به في النهاية لعدم الثبات على موقف ورأي واحد، وكذلك عدم الثقة بالنفس فهو يقول أمراً ما ويمارس فعلاً متناقضاً معه، لأنه ليس لديه الثقة الكاملة في أن ما قاله يجدر أن يقترن بفعل متوافق مع ما قاله، وليس لديه أيضاً درجة من الثقة بالنفس تجعله يدافع ويعلن أن فعله مبنيٌّ على ما يراه صواباً، وهكذا نجد أن عدم الثقة بالنفس تقود صاحبها إلى أن يقول شيئاً في مكان ما ولكنه يفعل خلاف ذلك ويعجز دوماً عن جعل قوله مسايراً لعمله، إما بسبب فقدانه لثقته بنفسه أو لاهتزاز مستوى ودرجة هذه الثقة، كما أن ذلك مردّه إلى عدم القدرة على التعبير الصريح عما يجول في النفس، ولذا فهو يملك القدرة على الفعل، ولكنه يمارس ما يريده الآخرون، لا لأمر إلا لأنه لا يستطيع التصريح عما يجول في خاطره، وهكذا فضعف الشخصية أدت بمن يتصف بذلك إلى أن يكون ذا شخصية ازدواجية غير قادرة على أن يتوافق قولها مع عملها بسبب هاجس الخوف من تطبيق ما قاله أو ما يعتقده.
ويمكن حصر خطورة الاتصاف بهذه الصفة، أو بالأحرى ما يترتب على الإنصاف بهذه الصفة الخلقية غير الحميدة بسبب غياب الاتساق الفكري والسلوكي بأنها تقود إلى قلق نفسي، وخلق نظرة اجتماعية دونية تجاه الفرد، أو المجتمع بأكمله، وهي أيضاً تجعل المتصف بهذه الصفة يحس داخلياً بتضارب وتنازع دائمين بسبب الفكر التناقضي بين ما يقوله ويعمله، أو العكس، كما أنها تجعل المرء يشعر دوماً بعدم احترام الذات، وتقلل في الوقت نفسه من الثقة بالنفس، وهذا بالإجمال يؤدي بدوره إلى ألم نفسي متواصل لهذه النوعية من الناس، كما أنه وهو الأهم أنها تعطي انطباعاً سلبياً عن مجتمع يبدو في ظاهره التقوى، والزهد، والتعاطي الإنساني الراقي في كُل، وتقلل من احترام وقبول الآخرين لنا، نظراً لسيادة نسق ثقافة التناقض البغيضة. والخلاص من هذه التذبذبية السلوكية - إن صح لي تسميتها بذلك - يكمن في الابتعاد عن تبني الصفات المذكورة آنفاً، والعمل جدياً على تكوين شخصية تتمتع بأحادية الموقف والرأي، أو الاتساق بين القول والعمل، وهذا يتطلب من المرء أن يجعل همه منصباً على قرن قوله بعمله، وأن يجعل عمله انعكاساً لما يعتقده؛ أتمنى أن يمدنا إشراق شمس الغد بأشعة تمنحنا إدراكاً أعمق لذواتنا يمكننا في النهاية من التخلص من سمة التوأمة لصفة التناقض، وبالتالي نكون مجتمعاً أفراده متسقو الفكر والسلوك.
alseghayer@yahoo.com@alseghayer