ربما كانت المرة الأولى، ذاك النداء التي ناشدت به السلطات السعودية جموع المسلمين في مختلف أنحاء العالم، بتأجيل قدومهم إلى الأراضي المقدسة؛ لأداء مناسك الحج، أو العمرة هذا العام؛ بسبب أعمال التوسعة الجارية - حالياً - في المسجد الحرام. بل إن مفتي عام المملكة - سماحة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، وصف القرار، بأنه: “أمر ضروري، ولا بد من الاستجابة له، وتطبيقه؛ لأنه يحقق مصلحة الأمة على المدى الطويل”.
يعد مشروع توسعة المسجد الحرام، وتطوير الساحات الشمالية للمسجد الحرام، الأكبر من نوعه في التاريخ؛ ليكون متميزاً من حيث التصميم، والتنفيذ، وترابطه مع المبنى العام للحرم من حيث الطابع المعماري القائم، ومنظومة الحركة للمشاة، والمركبات.
كما يأتي هذا المشروع العملاق، رغم الظروف الطبوغرافية للمنطقة، امتداداً؛ لاهتمام قادة المملكة ببناء، وتوسيع الحرمين الشريفين، وتسخير الإمكانات كافة - البشرية والمادية -؛ لتقديم أرقى الخدمات لضيوف الرحمن، ومن أهم ذلك: تحقيق أداء الشعائر بيسر، وسهولة، وطمأنينة.
ولذا فلا غرابة أن يكون اهتمام خادم الحرمين الشريفين بتوسعة الحرمين الشريفين، والمشاعر المقدسة؛ من أجل مواكبة الأعداد المتزايدة من الحجاج، والمعتمرين.
إن من المتقرر شرعاً، التوسعة على المسلمين في مواضع الحاجة، وأن “الأمر إذا ضاق اتسع”، وأن “ الضرورات تبيح المحظورات”.
فالشريعة الإسلامية شريعة اليسر، والسماحة في كل شيء، بما فيها أداء العبادات، - لاسيما - ما كان فيه التيسير على الأمة.
ومن ذلك على سبيل المثال: تلك التوسعة التاريخية، التي جاءت موافقة للكتاب، والسنة، وموافقة للمقاصد الشرعية، من باب التيسير العام المنضبط. كما جاءت موافقة للمصالح العامة بالحفاظ على النفس، والمال، والعرض - وكذا - موافقتها للقواعد الفقهية، كقاعدة: “رفع الحرج، والمشقة عن المسلمين”، و”المشقة تجلب التيسير”، و”الضرر يدفع بقدر الإمكان”، و”تصرف الإمام منوط بالمصلحة”.
بل إن القاعدة الأخيرة، نص عليها الإمام الشافعي - رحمه الله -، وقال: “منزلة الإمام من الرعية، منزلة الولي من اليتيم”.
- ولا شك - أن القاعدة مهمة، ذات مِساس بالسياسة الشرعية، وتنظيم الدولة الإسلامية، حيث تضع حداً، ووازعاً للحاكم في تصرفاته كافة، بل ولكل من يتولى أمراً من أمور المسلمين، وهي تبين أن نفاذ تصرف الراعي على الرعية، ولزومه عليهم متوقف على وجود الثمرة، والمنفعة، وهذه القاعدة أشبه بالمجمع عليها، قلَّ أن يغفل من تكلم في القواعد الفقهية عن ذكرها، وهي تعد الصياغة الفقهية الشرعية لما يجب على ولي الأمر، وغيره فعله في شؤون المسلمين - كلها.
ومن هذا المنطلق، فقد ثمَّن كثير من علماء العالم الإسلامي المعتبرين، الخطوة الرائدة التي وجه بها - خادم الحرمين الشريفين - لتوسعة المسجد الحرام، في ظل التزايد المستمر في أعداد الحجاج، والمعتمرين كل عام، مما سيسهم - ولا شك - في تخفيف العبء، والزحام الذي كان يشتكي منه المسجد القديم.
- سواء - في الحج، أو في بعض أوقات السنة، كرمضان، وأشهر الصيف.
فكانت بحق محل ثناء، وتقدير العالم الإسلامي - كله -، بعد أن استوفى المسؤولون عنه، والقائمون عليه: الأدلة الشرعية، والعلمية، والتطبيقية، والخبرات المحلية، وتوثيقها توثيقاً شرعياً؛ لما في هذه التوسعة من الرحمة، والإحسان بالمسلمين، وموافقة الشرع الحكيم، فكانت أقرب للسنة، وأكثر رحمة بالأمة.
ورحم الله - فضيلة الشيخ - صالح الحصيّن، الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام، والمسجد النبوي - سابقاً -، حين وصف تلك التوسعة بقوله: “ليست أعظم من أي توسعة جرت في التاريخ - فقط -، بل هي أعظم من مجموع التوسعات - كلها - التي وجدت في التاريخ، بل أعظم منها مرة ونصف”.
drsasq@gmail.comباحث في السياسة الشرعية