تناول مركز أسبار للدراسات والبحوث والإعلام قضية هذا الشهر بالعنوان أعلاه، التي تحدثت عن تناقض المسارات في فصول الربيع العربي، من خلال مقاربة للدكتور فهد العرابي الحارثي؛ لتبرز كيف بدأ هذا الربيع هادراً مدوياً، يقتلع عروشاً، ويهدد أركان أنظمة؛ فرحل ابن علي، وتمت
تنحية مبارك، واقتُلع القذافي، وأُزيح علي عبد الله صالح؟ وكيف تبدد هذا الربيع، وتراجع وهجه أمام طاغية آخر في المشرق العربي.
كتبت مرة بأنني قلق من أن تحمل تلك الثورات في طياتها مزيداً من الضعف الأمني والانقسام والانقلاب على المصلحة العليا للأوطان، وأن يسير المشروع الدولي في القضاء على تلك الثورات تحت شعار (تجزئة المجزأ، وتقسيم المقسم)؛ لترتيب مصالحها في المنطقة، في مقابل تدمير الأوطان، وتمزيق الشعوب، وإغراقها في الفتن والدماء. فالقصة باختصار ليست ديمقراطية، ولا ديكتاتورية، بل مصالح غربية إسرائيلية، على طريقة (الخطوة خطوة).
يقول الدكتور الحارثي: إن العالم الحر الديمقراطي كان ينتظر تلك اللحظة المشعة من تاريخ العرب بفارغ الصبر؛ ليتخذ موقف الداعم بعدما تأكد من شجاعة التصميم وعفويته، بل إن الرهان على مصداقية المثل والمبادئ التي ظل الغرب يصم بها الآذان، ويملأ بها الآفاق. ومن شدة التفاؤل بالربيع لم يكن البعض راضياً عن مآلات ثورة اليمن قياساً بما جرى في تونس ومصر وليبيا. ثم أتت التجربة السورية، وأصبح الجميع اليوم يتمنون لو أن بالإمكان استنساخ النموذج اليمني في بلاد الشام.
لماذا سهل الأمر في تونس ومصر وليبيا، وتعثر في سوريا؟ يجيب الدكتور الحارثي بأن “العالم، والتاريخ، والربيع نفسه لا تحتمل كلها سقوط خمس ديكتاتوريات في عام واحد، من يضمن العواقب؟”.
بعد ذلك تناول الدكتور الحارثي أبعاد الأزمة السورية، وتداخل مفرداتها، ابتداء من التدخل الإيراني، وذراعه المسلحة في المنطقة (حزب الله)، إلى تواطؤ روسيا، وسعيها “العودة إلى التاريخ” عبر بوابة دمشق، ثم تراخي أمريكا، والهوس الذي ينتاب إدارتها الحالية، بالابتعاد عن التورط في أي أزمات جديدة بعد العراق وأفغانستان، وأخيراً جيرة إسرائيل (الطفل المدلل)، الذي تتفق واشنطن وموسكو على أن مصلحته وحساباته سابقة على مصير العرب.
ويخلص الدكتور فهد الحارثي إلى أن “الربيع سقط أخيراً في أحبولة التجاذبات الدولية، والضحية كانت سوريا، والشعب السوري، وبسقوط سوريا في براثن التجاذبات الدولية”.
على أية حال، إن اتفقنا أو اختلفنا فإن التاريخ سيكتب يوماً ما أن من الملفات المفتوحة والساخنة في الغرب: ملف البلاد الإسلامية، وكل ما يرتبط به من اجتهادات وثقافات وحركات سياسية واجتماعية. وسيتغير التحرك الدولي في اتجاه تغيير سياساته المجحفة بحق قضايانا إلى سرقة عقول أجيالنا القادمة؛ لتكون أمريكية. وستفتح حقبة جديدة في العالم العربي، يمكن وصفها بـ”حقبة الاحتلال الأمريكي الجديد للمنطقة”.
إن رفع الالتباس وتنبيه الناس في اتجاه تعزيز الوقائع، وتوضيح الحقائق، أمرٌ في غاية الأهمية؛ فالمعادلة الصحيحة هي أن الغرب يريد تبديل الوجوه والأشخاص؛ لإكمال ما بدأه أسلافهم الأوائل. ومن ثم فإن التعويل على المواقف الغربية - وعلى رأسها أمريكا - فاشل.
وفي الوقت الذي يطلون فيه علينا بدعم الديمقراطيات، والتلويح بورقة حقوق الإنسان، نعلم يقيناً أن هناك الكثير من الرياء الأخلاقي والسياسي، خدمة لسياسة الفوضى الخلاقة في المنطقة، التي تخدم مصالحهم.
drsasq@gmail.comباحث في السياسة الشرعية