تحويل أكبر روافد النيل في هضبة الحبشة بعيداً عن مصر والسودان ينقص من المياه في النيل الأب بمقدار الربع (خمسة وعشرون في المائة) على الأقل. الحبشة لا تريد حرباً على المياه مع مصر ولا مع غيرها لكنها لا تهتم لمصلحة مصر والسودان بمثل ما تهتم لمصلحتها، ومصممة على تحويل النيل الأزرق لتغذية واحد من أكبر سدود العالم (سد النهضة) للتوسع الزراعي وإنتاج الكهرباء وتربية الأسماك. تفضل الحبشة أن يحصل ذلك بصمت وفي غفلة أو غفوة يغط فيها المتضررون، مصر والسودان. الغفوة حصلت، نعمة من السماء هبطت على الأحباش. المصريون والسودانيون ينغمسون أكثر فأكثر في حروبهم الداخلية، الحزبية والمذهبية والطائفية ومن كل صراع أحمق ومتعصب وجاهل.
الشيء نفسه سبق أن حصل تجاه المشروع الاستيطاني في فلسطين. مازال الفلسطينيون منغمسين في خصوماتهم ودسائسهم وحروبهم المفصلة على مقاساتهم الصغيرة الخاصة بهم. منذ نكبتهم الأولى وهم يتقاتلون فيما بينهم ولكن على ماذا؟ يتقاتلون على الإيديولوجيات والدولارات والنساء والسيارات الفخمة ويدعون الجهاد لاسترجاع فسطين. المنظمات والجبهات التي خلقها الفلسطينيون في الستين سنة أكثر مما خلقه كل العالم في تاريخه. هذه الجبهات كلها لم تسترد متراً واحداً، والبقع الصغيرة الباقية في الطريق إلى الضياع، وما زال الفلسطينيون يتصارعون مثل الضباع التي طردتها النمور من البرية فترتد على بعضها البعض.
ما لبث اللبنانيون والعراقيون والسوريون أن لحقوا بهم، وللأسباب نفسها، أي الآيديولوجيات. الآن وصلت العدوى إلى المصريين، وكنا نظن أن المصريين كحضارة وتعايش وتارخ هم أعقل العرب. يبدو أنهم ليسوا ذلك، وها هم يدخلون إلى مسالك التيه نفسها التي شتتت الآخرين عن الأهداف الحقيقية لبناء الأوطان وخانت أمانة تسليمها سليمة للأجيال القادمة.
قلنا بعد أن سقط حكم مبارك مهندس اتفاقيات شرم الشيخ الخيانية القذرة، قلنا ها هو الربيع قد بدأ في مصر. الناخب المصري أعطى ثقته لحزب غير اسمه فجأة من جماعة الإخوان إلى الحرية والعدالة لأسباب سياسية باطنية، بعد أن وعد وتعهد بخدمة مصر كاملة، أي بكل أطيافها وأديانها ومذاهبها وتطلعاتها وأحلامها. حينما تعهد الحزب الجديد بذلك وأقسم الرئيس المنتخب الجديد على ذلك فهم المصريون، والعرب، وكل العالم، فهموا منه ذلك على أنه ليس له مرجعية أخرى سوى المصلحة الوطنية الجامعة لمصر.
ما لبثت الأمور أن تكشفت خلال شهور قليلة عن أجندة حزبية باطنية في الانتهازية السياسية. المكيافيلية السياسية عندهم قدمت مصلحة من يسمون نفسهم الجماعة على مصلحة الوطن. حاولت الجماعة سريعاً الانتهاء من خطوات (التمكين) لذاتها ومجموعتها، بحيث لا يستطيع أحد بعد ذلك منازعتها على الأمور في مصر. جمع الرئيس كل السلطات القانونية الثلاث في يده، التي هي حقيقة يد المرشد، لأنه مجرد غلام تابع عنده، مثل أحمدي نجاد عند علي الخامنئي. وضع الرئيس المنتخب الدستور بكامله في جيب المرشد بعد تمثيلية هزلية من خلال لجنة تتحكم فيها الجماعة. دخل في معركة كسر عظم مع القضاء والمحكمة الدستورية العليا، فشوش عليها وألغى فاعليتها وحاول التلاعب بقضاتها مثل أحجار الشطرنج، لكنهم قاوموا ببسالة. كونت «الجماعة» في دائرتها العليا السرية، والرئيس الجديد من ضمنها، لجنة لمراقبة مصلحة الدستور على النمط الإيراني بالضبط. المرشد العام هو الولي الفقيه وهو مرجعية الرئيس وكل الوزراء، وليست مرجعيتهم لم شمل كل الأطياف المكونة لمصر لمصلحة كل مصر.
ثم ماذا؟. هذه التصرفات الانتهازية الخرقاء أوجدت الجو المناسب لتقسيم مصر إلى فساطيط، وما على المصري إلى أن يختار فسطاطه ضد الفساطيط الأخرى.
سوف تطول معارك الإيديولوجيات القذرة في مصر وسوف تسيل دماء غزيرة. في الوقت نفسه سوف يشح نهر النيل بمقدار الربع على الأقل خلال سنوات قليلة.
في ختام الكلام أتمنى وأنصح المكونات الوطنية في الأقاليم العربية التي لم تصلها العدوى بعد، أن تفكر جيداً قبل أن تنساق وراء البعض من أبناء بلدانها أنفسهم الذين يدسون أنوفهم للشمشمة في الخارج ويروجون للأفكار الميكيافيلية نفسها في الداخل. قطع الله دابرهم وكفانا شرورهم.
الرياض