ما حصل في مصر بتدخل الجيش، وما سبقه من عدم استقرار في أقطار عربيَّة أخرى تبنَّت حديثًا الانتخابات وسيلة لتشكيل الحكومات، لافًت للنظر فعلاً. فجميع الانتخابات التي تلت ما سُمِّي بثورات الربيع العربي لم تؤت أكلها،
أو على الأقل لم تأت بِكلِّ ما توقعته الجماهير التي قامت بها منها، بل إن بعض المحليين بدأ بالنَّظر لها على أنّها لا تختلف كثيرًا عن سابقاتها من انتخابات الـ99 في المئة التي تعيد دائمًا انتخاب سلطة قائمة فعلاً بطرق أكروباتية. فالمنتصر دائمًا في عالمنا العربي هو من يحوز على ولاء القُوَّة العسكريَّة أو يحظى لأسباب مختلفة بدعم منها. ويرجّح هذه النَّظرة أن العسكريين أنفسهم ما أن يقفزوا على السلطة في بلد ما حتَّى يتبع ذلك إعادة ترتيب للقوى العسكريَّة فيها لضمان عدم تحركها مجدَّدًا ضدهم.
غير أن ما حصل في مصر بوجه خاص، بالرغم من أنَّه قد سبقه وضع مشابه في الجزائر عام 1976م عندما فاز الإسلاميون بالسلطة وانقلب عليهم جنرالات الجيش لأسباب مشابهة، يظل الأهمّ لأن هناك نسبة وتناسبًا بين حجم مصر، وموقعها الجغرافي، ودورها التاريخي في التأثير في المنطقة، وفي تأثيرها على ما حولها. فما الذي حصل فعلاً؟ وما التداعيات المستقبلية المحتملة لذلك؟
وسبق وكتبت في مقالات سابقة بُعيد خلع مبارك من السلطة من قبل الجيش، وتولي الإخوان المسلمين السلطة بعد انتخابات هي أشبه بالاقتراع منها بالانتخابات، أن من يصعد للسلطة في هذا التوقيت يحتاج معجزة لينجح. والواقع أنَّه لا يمكن مقارنة الانتخابات المصريَّة الأخيرة بما يحدث في الانتخاب الديمقراطية المتطورة، لأنَّه لم تكن هناك قوى سياسيَّة على الساحة منظمة وذات برامج سياسيَّة واضحة بما فيه الكفاية لتوعية الجماهير المندفعة بالخيارات السياسيَّة المتاحة، أو تُوضِّح لها إلى أين يمكن أو يجب أن تتجه إليه البلاد. فالجماهير كانت في حالة احتقان في عهد النظام القديم وأقدَّمت على التظاهرات والاحتجاجات الجماعية على أمر واقع ولكنَّها لم تكن تعرف ما تريده بالضبط وبِشَكلٍّ واضحٍ، وصور الأمر على أنَّه صراع فلول النظام القديم ضد خصومه الذين كان الإخوان المسلمون الأكبر والأكثر تنظيمًا بينهم، ناهيك عن جاذبية الطَّرح الإسلامي للجماهير لارتباطه بدين الجماهير ومعتقداتها، وفاز الإخوان بأول فرصة تاريخية لهم بالقيادة السياسيَّة دون وجود منافس حقيقي.
تبقى حقيقة أن الإخوان فازوا بأول انتخابات، أو فلنقل بأقرب اقتراع حصل في تاريخ مصر لمفهوم الانتخابات، فوزًا مشروعًا، واستلموا السلطة فعليًّا من يد الجيش الذي برز كقوة ضامنة ومؤثِّرة، لكن مرسي بعد صعود السلطة اتبع أسلوبًا هو أقرب لأسلوب العسكر منه لأسلوب رئيس منتخب ديمقراطيًّا وذلك عندما استبدَّل قيادات الجيش والأمن العليا طمعًا في ضمان ولائها، وهو ربَّما لم يدرك أن ذلك لن يكون مطمئنًا للقوات المسلَّحة ذاتها، التي رأت في ذلك “سيناريو” قابلاً للتكرار مستقبلاً إذا ما بقيت خاضعة تمامًا للسلطة التنفيذية. والحقيقة أن أيّ قوة كانت وصلت للسلطة في مصر في أوقات كهذه، مهما كان توجهها، محتومة بمواجهة صعوبات كبيرة في إدارة بلاد في حالات من الفوضى وعدم الاستقرار، فكان الإخوان في فوهة المدفع وكان فشلهم، أو فشل أيّ قوة سياسيَّة أخرى هو المتوقع. وبالفعل حصل ما حصل.
ويمكن القول: إن مصر بسقوط مبارك قفزت للديمقراطية قفزًا، ولم تتح لها الفرصة للمرور بمراحل انتقالية ضرورية لتكوين بنية تحتية ديمقراطية حقيقية، ونُظر للأمر وكأن الديمقراطية مرادف للانتخابات وهذا خلط كبير حصل في الدول المجاورة الأخرى أيضًا. فللديمقراطية شروط لا بد من تحققها، من أهمها وجود دستور عام وتشريعات واضحة تدعمها، ووجود قوى سياسيَّة وأحزاب مُتطوِّرة واضحة الفكر والأهداف، ووجود نضج سياسي جماهيري ووعي بأهمية الديمقراطية ذاتها، والاستقلال التام للسلطة التشريعية عن السلطة التنفيذيَّة، أخيرًا وليس آخر، وضوح دور وموقع القوات المسلَّحة من هاتين السلطتين، كما يَتطلَّب فصلاً كاملاً للدين عن السياسة. وجزء كبير من هذه الشروط لم تكن متوفرة في مصر، أو فلنقل لم تكن متوفرة بالشكل الذي يكفل نجاح العملية الديمقراطية.
دفع قلّة الخبرة السياسيَّة للإخوان إلى التسرُّع في كثير من الأمور، فبدلاً من تعميق المسار الديمقراطي بتوفير الشروط السابقة الذكر، اتخذوا اتجاهًا مغايرًا أو يمكن القول معاكسًا في بعض الأمور، مما خلق الشكوك لدى القوى الأخرى، أو حتَّى بعض الأصوات التي انتخبتهم، حول نواياهم الحقيقية. فانطلقوا من تصور يَرَى ضرورة الاستحواذ على السلطة بكاملها، وتعجلوا في تنفيذ برنامجهم السياسي الذي يَرَى تكريس ديمقراطية في ظلِّ مبادئ الشريعة الإسلاميَّة، ولم يدخلوا في أيِّ مساومة فعلية حول هذا البرنامج مع أية قوى أخرى. واتجه مرسي بالسلطة لاتجاه غير واضح بِشَكلٍّ جليٍّ، فكان التسرُّع في تغيير القيادات العسكريَّة بِشَكلٍّ شبه فوري مما رسخ انطباعًا بأن الإخوان لا يستطيعون التَّعايش مع قوات مسلحة لا تخضع لسيطرتهم، وتبع ذلك تدخلها في السلطة التشريعية بعد استقالة عدد كبير من لجنة إعداد الدستور، ثمَّ تمَّت محاولة صياغة دستور للبلاد ذي طابع أخواني ومحاولة فرضه كأمر واقع على القوى الأخرى عبر استفتاء متسرع معروفة نتائجه سلفًا. فهل يا ترى أسقطت السلطة الفعلية ورقة التوت التي كانت تستر الفكر الإخواني كما يدَّعي خصومها؟
الإجابة على هذا السُّؤال صعبة وقد لا تكون بنعم أو لا، ولكن كان من الواضح أن الإخوان لم يكونوا على وفاق تام مع قوى أخرى دعمتهم في بداية الأمر كالأزهر، والجماعات الإسلامية الأخرى، وكثير ممَّن صوّتوا لهم، فدخلوا في مرحلة ما يسمى في الغرب بإضاعة الناخبين، فتحوّل جزءٌ كبيرٌ من الرَّأي العام ضدهم. كما أنَّه اتضح فيما بعد أن الرئيس لم يكن مطلق اليد في السلطة من قبل الحزب وأن هناك أدوارًا خفية قوية ومؤثِّرة يلعبها المرشد والقيادات السياسيَّة الأخرى في الحزب، فبدأت ترتسم صورة لمرسي على أنَّه ليس رئيسًا للشعب بكافة طوائفه ولكنَّه زعيم للإخوان أولاً، ورئيسًا لمصر ثانيًا. وهذا دليلٌ جليٌّ على قلّة خبرة الإخوان بالإدارة السياسيَّة الفعلية، ففي جميع الديمقراطيات يتخلَّى الرئيس المنتخب، على الأقل ظاهريًا، عن حزبيته، لُيرى وكأنّه رئيسًا للشعب بكامله، وهذا ما صرح به مرسي في خطابه الأول فصفق وهتف له الجميع، إلا أنه فشل في الالتزام به فيما بعد، وظهر وكأنّه رئيسًا مهزوزٌا غير قادر على الاستقلال بقراره السياسي، فبدأت أشهر التخبطات السياسيَّة في المواقف التي رسخت قناعة لدى قطاع كبير من الجماهير أن الإخوان لا يملكون حلولاً ناجعة لمشكلات مصر السياسيَّة والاقتصاديَّة فكان ما كان. فما بعد سقوط، أو فلنقل إسقاط مرسي؟
latifmohammed@hotmail.comTwitter @drmalabdullatif- أستاذ في جامعة الملك سعود