عندما كنا في سنوات المرحلة الابتدائية الأخيرة “الخامس والسادس”، كان المعلم يملي علينا قطعة أدبية في مادة “الإملاء” التي راحت مع زمن الطيبين!!، أذكر من حرصه أمدّ الله في عمره على الطاعة وجزاه الله عنا كل خير، حتى الفواصل والنقط يذكرها، ويدقِّق عليها حين التصحيح، ولا أنسى قوله بصوته الجهوري الجامع بين المحبة والتخويف “نقطة ومن أول السطر”.. والتي تعني كما عرّفنا حينها؛ أنّ العبارة اكتمل معناها، وسوف نبدأ كتابة عبارة أخرى ذات معنى جديد.. مع أنّ ما نكتبه من أوله لآخره مرتبط بمعنى كلي ينتظم الجميع.
حاولت في حياتي أن أطبق هذه القاعدة الكتابية، وأن أوجد فصلاً تاماً بين الأحداث والمنعطفات، وكم كررت هذه العبارة على لساني حتى تكون البرمجة الداخلية لعقلي الباطن قوية، ليس هذا فحسب بل حين تكون المصائب وعندما أواجه الصعاب والملمّات التي هي سنّة من سنن الله في الحياة، أحاول جهدي أن أعود للصف الأول الابتدائي عندما كنا نكتب الحروف مكررة في عشر صفحات، إذ كنت حينذاك لا أحسن مسك القلم ولا أستطيع أن ألتزم بالسطر، ولذا كثيراً ما كنت أستخدم الممحاة، وقد أضطر إلى مزع الورقة بالكامل من دفتري الصغير.
البعض منا لا يعرف هاتين القاعدتين الذهبيتين أبداً، لأنه باختصار نادراً ما يقف ليقرأ في صفحة أعماله، ويحاول أن يضع نقطة ينهي بها سيل العبارات المتراكمة فوق بعضها البعض في سجل حياته، ومن ثم يبدأ عبارة جديدة لها صبغتها المميّزة، ونكهتها الخاصة، وإن كانت ترتبط جبراً بخيوط سيرته الأولى، فالحياة في حقيقتها، أردنا ذلك أم لم نرد، حلقات متتابعة لها عنوان رئيس، وبداية من أول السطر، وستكون عمّا قريب - حتى وإن طال الزمن في الميزان البشري القاصر - لحظة النهاية، ومن بعدها “والسلام”.
إنني أعتقد أننا ونحن نستقبل اليوم شهر رمضان المبارك، أمام فرصة عظيمة، لأن يضع الواحد منا نقطة ويبدأ من أول السطر، لعلّه أن يبدع في تسطير عبارة جميلة بصفحات ديوانه الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها، وإن كان يعرف من سيرته أنّ حاله مثل حالي عندما كنت في الصفوف الأولية من المرحلة الابتدائية فليمزع ورقته إن استطاع، وليعلنها توبة صادقة لله، وليسأل الرب الرحمن الرحيم “العفو” إذ به يمحو الله ما مضى في سالف الأيام.
جميل أن يستشعر المرء فضل الله عليه أن بلغه هذا الشهر الكريم، والأجمل في ميزان العقلاء الخيِّرين، أن يستغلّ كلٌّ منا هذه الفرصة الذهبية فيما يحقق له الخير في الآخرة والأولى، ويحقق لنا بمجموعنا كأُمّة “الخيريّة” التي وعدنا الله إيّاه في هذه الدار.. والمنطلق والأساس في هذا التغيُّر الحقيقي المطلوب “النية” التي محلها القلب، فالإخلاص هو عنوان الأعمال الذي يكتب في أعلى الصفحة، وكل عبادة هي بمثابة عبارة مستقلة في قطعة “النفس الإنسانية” ودفتر الأعمال.
قد يلومني البعض في تقريبي الأمور المعنوية بأمر مادي بسيط في حياة كل منا، وهذا فقط - لمجرّد التوضيح - منهج نبوي معروف، فرسول الله صلى الله عليه وسلم قرّب ما بين العبد ودخول الجنة أو النار بالذراع المحسوس والمعروف، حيث قال في الحديث الصحيح: “.. فوالله إن أحدكم أو الرجل يعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو ذراعين فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها”.
أبارك للقارئ الكريم حلول شهر رمضان المبارك، وأسأل الله للجميع التوفيق للعمل الصالح “الخالص الصواب”، كما أسأله سبحانه أن يحقن دماء المسلمين، وأن يقينا وإياهم شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.. اللهم آمين وإلى لقاء والسلام.