عدت للتو من رحلة فرغت فيها لنفسي. لا لجيبي، ولا لفكري. وما أقل الذين يمنحون أنفسهم إجازة، يُروِّحون فيها عن قلوبهم، ويُمتِّعون بها مشاعرهم، تمشياً مع الأثر :- [ساعةً وساعةً].
لقد كنا من قبل، لا ندري، ما السياحة ! وما التَّرْوِيْح !.
فشظف الحياة، وشح الموارد استأثرا بكل الجهد، والتهما كل الوقت. وجيلي المُخْشوشِن اضطراراً لا اختياراً، والذي لم يعش طفولة مريحة، ولا شباباً مُرَفَّها، يستبق الزمن، ليعوض ما فات. وأَنَّى له ذلك، وهو يَجِدُّ ويَحْفِد في الوقت بدل الضائع.
ولربما أكاد في تلك الغيبة أقطع صلتي بمن حولي، وبما حولي من الأناسي، والأحداث الجسام. وكثير من الناس من يشغله كِيْسُه، ويهتم بما حوله، وبمن حوله. مع أَنَّ الترويح عن النفس، واللهو البريء مطلب جسدي، ومقتضى شرعي.
لقد كانت لي ذكريات عذاب في منتجع [بلودان] في شام الأمويين، أنقذها الله مما حل بأهلها المستضعفين. ولما لم يكن في بقاع الوطن العربي موطئُ قدم آمن، وجهت وجهي شطر المطارح الآمنة، سائلاً المولى أن يعيد لأرض العروبة أمنها، واستقرارها، ووعيها باللعب السياسية القذرة، لكيلا تؤخذ على غِرَّة. وهي قد أُخِذَت بائتة، أو قائلة. ولكن الأمل بالله متين :- [ويبقى العود ما بقي اللحاء]، وتفاؤلنا أن في اللحاء بقية.
وفي تلك الغيبة، غير [السٍّرْدابِيَّة] على الملة الشيعية، لم أصحب معي إلا قبضة من أثر المفكرين، والسياسيين، في بضعة كتب، خفيفة الحمل ثرية النفع، من بينها كتاب [كنت شيوعياً] لـ [بدر شاكر السياب]. وهو مجموعة مقالات، نشرها تباعاً عام 1959م في جريدة [الحرية] في بغداد، ثم جمعها، وأضاف إليها أحد عشر مقالاً، ثم أخرجها إلى الناس في كتاب مليء بالعبر، التي لها صلة بما نحن فيه من ترديات موجعة.
وحين عدت، وافر الراحة، وارف الأنس، وجدت بانتظاري ما لا يسر. فالأمة العربية مغلوبة على أمرها. وأحداثها الجسام تُصْنع على عُيونٍ غير عيونها. وقدرها أن تخرج من فتنة، لترتكس في فتنة أخرى، أشد بأساً، وأشد تنكيلا. حتى لقد أيْقنتُ أن كل من لاقيت يخوض في حمامات الدم، ويمشي على ركام الجثث، ويَسِيخ في حمأة الخبال.
ومن الأحداث اللافتة للنظر، خليجياً، وعربياً : تنازل [أمير قطر] عن الحكم لنجله. وأحداث [مصر] الأليمة. واستمرار تردي الأوضاع في سوريا. واستفحال الطائفية البشعة.
واحتقان السنة والشيعة، بعد مصالحة وتعايش. وفيما دون هذا وذاك، تأزم الأوضاع في بقاع كثيرة من وطننا، المتخذ غرضاً لكل السهام المسمومة.
حتى لكأنه جسم [المتنبي] الذي اعتورته سهام المصائب، فصاح بها :-
[أَبِنْتَ الدَّهر، عِنْدي كُلُّ بِنْتٍ
فَكَيْف خَلُصْتِ أَنْتِ من الزِّحامِ؟]
وحين أخذه اليأس، لم يزد على وصف حاله :-
[وَكُنْتُ إِذا أصَابَتْنِي سِهامٌ
تكسَّرتِ النِّصالُ على النِّصالِ]
واللعب السياسية تعيد نفسها، حذو القذة بالقذة، منذ [حملة نابليون] إلى أن تدرك الشعوب العربية أنها الطريدة المنهكة، وأن خلاصها يكمن فيمن تَخَطَّى بها رَعْي الأنعام إلى رِعاية الأنام.
وكتاب [السياب] الذي جمجم عما في نفسي، على الرغم مما فيه من العهر والكفر، يحكي خديعة الشيوعية له بمعسول الوعود. وهي خديعة تعيد نفسها في عالمنا المتذاكي في زمن الذكاء، ولكننا في غفلة عن هذا.
ولم يكن بُدٌّ من الإشارة إلى التحولات الطائشة في فكر [السياب] الحركي، لا في فَنِّه الأدبي، لأنها تتشخصن في أفكار البعض منا. وهي تحولات قاصمة، وغير متصورة. فلقد راقت له [جمعيات إلْحادية]، و[أحزاب شيوعية]، وهو إذ أنهكه البحث عن الحقيقة، فقد استهوته دعاية الأحزاب، والجمعيات. وإذا كان [سلمان الفارسي] - رضي الله عنه - قد طاف يبغي نجوة من هلاك فنجا. فإن [السياب] طاف يبغى نجوة من هلاك فهلك.
الجميل في كتابه الاعتراف الصارخ، والندم [الكُسَعِي]. غير أنه ظل متبعا لـ [كاذب مضر].
والأجمل أنه حين لحق بـ [حزب توده الشيوعي] في [إيران] كشف عن عِلَّتين باطنيتين :-
- التبعية العمياء لما سماه [كعبة موسكو].
- الشعوبية المجوسية الحاقدة على العروبة والإسلام.
ولن أدخل في تفاصيل ما يحدث الآن، وتلاقيه مع ما كشفته اعترافات [السياب] الذي خرج من حاكمية الإسلام، ولم يعد إليها.
والأحداث التي أشرت إليها، قُرِئَت على عدة مستويات، وبِعِدَّة رؤى. وعتبات القراءة : تؤدي إلى أحَدِ النَّجْدين.
وفتنة القراءة تزيد في التعقيد. لأن القُرَّاءَ لا يملكون البراءة، ولا الخلوص من أنساقهم الثقافية.
وإذا امتلكوها، فإنهم لا يتوفرون على القدرة والمعرفة. فهم : إما [مؤدلجون]، أو مغفلون، يتَّبعون كل ناعق. ونتائج القراءتين واحدة.
وفوق هذا فإن أمور عالمنا مرتهنة للفعل، ورد الفعل. فالنخب لا تبتدر الأمور، ولا تنطلق من قعر الواقع، وحراكها تبعي خالص التبعية. وهي حين تثار، تهتاج عُزْلا من فقه الواقع، والتمكين، والأولويات، ودرء المفاسد. وحراكها يساعد على استفحال المشاكل، والضلوع في التنازع، والفشل، وذهاب الرِّيح.
والأحداث التي مرت بها الأمة، أسهمت في تعميق الفرقة بين نخبها، وتشتيت الآراء، وتباين القراءات.
لقد مللنا القراءات المتسطحة، والقراءات المجامِلة، وضقنا ذرعاً بغفلة المؤمن، وجلد المنافق، والضخ العاطفي، الذي ينساب كالخدر في مشاعرنا، وأحاسيسنا.
إننا حين نختلف مع [الأدلجة] الحزبية، والأخطاء الإجرائية، والجهل السياسي، ونسعد بتخليص [مصر العروبة] من منزلق خطير.
فإنه يجب أن نقرأ ما تحت السطور، فالأمر لم يعد مجرد تنحيةٍ لفريق، وتقريب لآخر. الوضع في مصر لم يعد طبعياً، ولا محتملاً، ومن الخير لنا ألا ننزلق، ونسطح الأحداث، وإذ نَجَّانا الله من إِعمال سيوفنا في الفتن، فلا أقل من أن نكف ألسنتنا، ونرفع أقلامنا. فكم كلمة قالت لصاحبها دعني.
لقد أشرت في مقالات سلفت إلى أن فوز [حزب الإخوان] في الانتخابات في تلك الظروف العصيبة سيكون على حسابهم. وأشرت ثانية إلى ظاهرة الأثرة، و[الأدلجة] الحِزْبِيَّة، والتصرف المجازف. وأشرت ثالثة إلى تقحم المسؤوليات الدولية بعزيمة جامحة، وخبرة قليلة. وما آلت إليه الأمور متوقع، لأن المؤشرات تؤدي إليه، وبخاصة أن حزب الإخوان أخطأ في التعامل مع [المصالح الأمريكية].
وكم كان بودي أن تكون قراءة النخب متأنية، وغير [مؤدلجة]، فالمقدمات الخاطئة تصير بأصحابها إلى ما هو أسوأ، و[مصر] العزيزة على كل عربي مسلم، لما تزل رهينة التجييش العاطفي. والشارع يجب ألا يكون مصدر التشريع، والتنفيذ معاً.
ذلك بعض ما نستطيع قوله في الشأن المصري، فالليالي حُبَالى، يلدن كل عجيب. والقراءات المتواترة تقتسم الحقيقة، إذ ليست هناك قراءة تحتكرها، غير أن بعضها يبعد النجعة، ويرجم بالغيب، ويداوي بالتي كانت هي الداء. وخوفنا على الراي العام الذي تتخطفه هذه القراءات الآثمة، ثم تضله سواء السبيل، وإن كانت تلك الأحداث تتسع لكل القراءات.
وعلى كل مستويات القراءة، فالتنازل والانسيابية لا يحتملان كل هذا الانبهار، ولا يتسعان لكل هذا التمجيد، إذ سُبِقا بانقلاب عَقُوق، لا يُحتمل على أي وجه، ولأن مسرح السياسة ليست له [كواليس]، فقد لزمت مبارحته بعد استكمال الأدوار.
في النهاية نقطع بأن [مصر] تسير باتجاه فِتن عمياء، أدناها تمزيق الهوية.
و[قطر] يتجه صوب الخلود للراحة، ليأخذ نفساً طويلاً، يناسب أعماقه المتواضعة، إذ لم يكن دولة محورية، وليست له أعماق [استراتيجية] تناسب ممارساته من الوزن الثقيل.