في زمن سادت فيه التعاملات النقدية، وغابت عنه المصارف والمؤسسات المالية، كان بعض التجار الثقات يمارسون في مجتمعاتهم عمل البنوك التقليدية، من تلقي الودائع وحفظها، أو استثمارها عن الغير من خلال المشاركة، والإقراض عن طريق الرهن الذي كان منتشرا آنذاك. كانت الأنشطة التجارية بسيطة، والأسواق تسيطر عليها تجارة المواد الغذائية بالدرجة الأولى.
ومثلما تفعل البنوك اليوم، كان التجار المليئون ممن امتهنوا مهنة الإقراض بأرباح مرتفعة، يمحصون عن خلفيات المقترض ويركزون على جانبَين مُهمين الأمانة والكفاءة في العمل، أما الأمانة فهي العملة الذهبية التي لا يمكن إخفاؤها عن المجتمعات الصغيرة، فالسمعة أساس كل شيء، والسجل الائتماني يمكن مراجعته من أفواه التجار الآخرين وربما أفراد المجتمع. ويندرج تحت الكفاءة أمور مختلفة أهمها، حفظ المال الذي كان يطلق عليه (الحرص وحسن التدبير)، والجدية في العمل.
أما الجدية فكانت مرتبطة بالحركة والعمل، فلا مجال للكسل، ومن لا يصلي الفجر في المسجد، ويُرى بعدها في السوق قبل شروق الشمس، فيحكم عليه بالخمول والبلادة، ومن يطيل النوم حتى الضُحى يُلقب بألقاب لا تليق بالرجال. وإن كان الشاعر بحسه المرهف أكثر رقيا في تشبيهه لـ (نوام) الضُحى من عامة المجتمع، حين قال: (كم فات رَقَّاد الضحى من غنيمة).
كلما راجعت في مخيلتي فلسفة التجار، والمجتمع في تعاملهم مع ساعات النهار الأولى، وحرصهم عليها، أُصِبتُ بالإحباط لتفريط بنوكنا وسوقنا المالية بها، وهم الذين يمثلون النسخة المطورة لتجار القروض واستثمار الودائع السعوديين في مطلع القرن الماضي. لو تعامل المودعون مع البنوك الحالية، كتعامل تجار الزمن القديم مع المقترضين، في معايير التقييم، لما أَمِنَ أي منهم في إيداع أمواله في بنوك تفتح أبوابها الضحى، بعد ساعات من عمل الناس، وتعتبر الظهيرة ذروة ساعاتها، والناس منصرفون عنها قائلون في منازلهم!.
أبحث عن تفسير يمكن أن يُسَوِّغ تأخير افتتاح البنوك حتى التاسعة والنصف صباحا، وسوق المال حتى الحادية عشرة، ومبررات تغيير المواعيد التي كانت متوافقة مع احتياجات الاقتصاد، والقطاعين الحكومي والخاص، وثقافة المجتمع، فلا أجد. برغم برودة الطقس، وتأخر شروق الشمس تفتتح المصارف أبوابها، في بعض الدول الاوربية، الساعة الثامنة والنصف، أما البنوك الخليجية فتفتتح أبوابها الثامنة صباحا كما كانت بنوكنا تفعل من قبل. الا تشير تلك المواعيد المطبقة في أوروبا ودول الخليج على أهمية ساعات الصباح الأولى للقطاعات المالية؟، وأهمية توافقها مع قطاعات الاقتصاد الأخرى، وبما يمنع حدوث الفجوات الزمنية بينها.
أجزم بأن تغيير ساعات عمل البنوك، وسوق المال السعودية بات ضروريا لما فيه من فوائد كثيرة، واستثمار أمثل لساعات الصباح الأولى، وهي ساعات الذروة في السوق السعودية، ورفع كفاءة إنتاجية الموظفين. غالبية عملاء البنوك، والشركات والقطاعات التجارية، والمستثمرون في سوق المال، والموظفون متضررون من المواعيد الحالية، ويعتقدون أنها لا توافق احتياجات الاقتصاد بشكل عام.
بعد تغيير إجازة نهاية الأسبوع إلى الجمعة والسبت اعتمادا على احتياجات القطاعات المالية والاقتصادية، بات من الضروري تقديم ساعات افتتاح المصارف وسوق المال السعودية، والعودة بها إلى ما كانت عليه من قبل، وهي المواقيت الأفضل والأكفأ للجميع، فهل يبادر محافظ مؤسسة النقد، ورئيس هيئة السوق المالية لتغيير مواعيد الافتتاح، أم نحتاج إلى قرار ملكي كريم يعيدنا إلى ما كنا عليه من قبل؟!.
f.albuainain@hotmail.com