** في زمن الفتن لا تفترق قطيعيةُ التناول عن قطيعيةِ التداول؛ فمن يتكررون هنا يتكررون هناك، وتوشك أن ترى أسماءَهم ووجوهَهم في طرحهم المستنسخ كما في نقولهم المرددة، ولا يُعيي من يَعلمُهم أن يكتبَ بالنيابةِ عنهم فقد وقفوا حيث هم لا يُضيفون كما لا يضيئون.
** وفي زمن الهذر الذي هو نفسُه زمنُ الهدر صار الكلُّ يكتب مثلما البعض يكذب ولم تعد الحقيقةُ هدفًا غائيًا وإنما تسجيل أهدافٍ مسبقةِ الصنع في المرامي الخالية وبوجود حكامٍ لا يعون قواعدَ اللعبة ولا يحملون صافرةَ البدء وضرباتِ الجزاء.
** القضيةُ ليست أسلوبًا مفتقدًا كان يومًا شرطَ الكتابة الأهمَّ؛ فمع أهمية الأرضية الثقافية والفكرةِ المتجددة لم يكن يحمل القلمَ إلا ثلةٌ لها سلاسةُ طه وعمق العقاد وجزالةُ الرافعي وتراكيب الزيات وفضاءاتُ أحمد أمين ومماثلوهم؛ فكان النشرُ لهم إيذانًا باستحقاقِهم أهليةَ الكتابة التي بُدئت -كما سجعوا - بعبدالحميد لكنها لم تُختم بابن العميد.
** كل هذا لم يعد مطروحًا؛ فلا أحدَ يلتفت للأسلوب المحاصرِ بأميةِ اللغةِ ولافتات اللغو، لكن الأهمَّ غيابُ القراءةِ الواعيةِ الهادئةِ المبرأةِ من الشخصنةِ لقضايا الأمةِ المصيريةِ بما يعنيه ذلك من ثباتٍ على المواقف المفصليةِ التي لا تتبدلُ كأجواء صيفٍ ومزاجية كيف.
** تمرُّ بنا الأحداثُ فلا تطيق الكلماتُ صمتًا ويتسابق الجميعُ للتحليل والتعليل والتدليل اتكاءً على ما قيل قبلًا أو تمثل هوىً أو نما ثرثرةً وربما حمل في مضامينه ما يدعو إلى تأجيجِ خصومة أو تجذير فتنةٍ أو دعوةٍ لاستباحة دمٍ وعرضٍ ومالٍ، وويلٌ لمن ولغ فيها، وويلٌ لمن سلَّم عقلَه فحدَّث وأحدث.
** دون وجودِ مواثيقِ شرفٍ يلتزم بها الكاتبُ ويبرأُ بها المكتوب تعمى الحروف وتضجُّ الدفوف ويتمايل القومُ على أهازيجِ الافتئات ومذاق الفتات، وفي تفاعلات القضايا التي تحاصرنا ما يشي بحرفِ مسارات العدل نحو الميل والاعتدال وَفق الميول.
** وربما يتجلى الإشكالُ حين نكتشف أن ثمةَ من يتبنَّوْن توجهًا بفعلِ ما سمعُوه ولم يعوه، وأيقنَّا أنها “ اللا أدريةُ” يَقدُمُها الصوتُ الأعلى والسوطُ الأقوى والمتلذذون بالولاء للسلطويِّ والجلاد والمبتلَوْن بمتلازمة”استكهولم”.
** من يؤمن بالديموقراطية لا يتنازل عنها لأن حزبًا نالها أو آخر اغتالها، ومن تعنيه حقوق الإنسان لا يفترق في حساباته ما يمسُّ بنيه أو مناوئيه، ومن يرنو إلى الحقيقة لا يعزف على الباطل.
** تحُولُ الشخصنةُ عن الموضوعية ويستنسخ الطارحُ نفسه عند تكرار جُمله وفواصله ويبقى وحيدًا مَن رفض العبور للضفة المقابلةِ حيث البناءُ مختلفٌ تتبدى منه صورٌ وملامحُ جديدةٌ لا يعيها إلا من رأى الضفتين وفاضل بين النَّجدين.
** لم نعد بحاجةٍ لمزيدٍ من الخطب فلا بلاغةَ كما لا إبلاغ، وإذ ينحرف الذوقُ المحترف عن جمال النص ونزاهة الشخص فإن المعنى يبقى ذا دلالةٍ أبرزَ حين يتنزهُ عن الإثارة والاستثارة ويقدر وقعَ الكلمة في التنوير والتثوير والتأني والتجني.
** الكلمةُ هُوةٌ لا هواية.
ibrturkia@gmail.comt :@abohtoon