أثار حفيظتي قبل فترة مقال قرأته حول الفنّان التشكيلي الإسباني العالمي، وما قام به من خلال بعض أعماله الفنية، من غزل فاضح مع دولة الاحتلال الصهيوني.المقال يتحدّث عن الزيارة التي قام بها الكاتب لمتحف الفنّان الإسباني (سلفادور دالي) في العاصمة الفرنسية باريس، وعن المفاجأة التي كانت بانتظاره حين شاهد في أحد أركان المتحف مجموعة من اللوحات التي رسمها الفنان في الذكرى الخامسة والعشرين لقيام (إسرائيل). اللوحات مرسومة عام 1973، وجاءت تحت عنوان (اثنتا عشرة قبيلة من إسرائيل)، أمّا الشّرح التوضيحي المرفق مع اللوحات فيتناول حسب ما يقول دالي التّطوّر التاريخي بمسحة سوريالية لنشوء (إسرائيل)!
لا أكتمكم سرّاً أنّني تألّمت حين قرأت المقال. لقد أحسست أنّ شيئاً ما انكسر داخلي، خاصّةً وأنني أحب أعمال هذا الفنّان، ولكنّ المصيبة التي كان قد ارتكبها والمتمثّلة بمجاملة أو بمغازلة دولة الكيان المجرم تدعو إلى إعادة النّظر في كلّ ما رسمه، وفي تجربته بشكلٍ عام.
تبذل دولة (إسرائيل) جهوداً حثيثة من أجل إقامة صداقات مشبوهة مع عدد كبير من المبدعين المعروفين، والشّخصيّات المرموقة في العالم. ومن أجل أن يمتدحها هؤلاء المبدعون، ويصوّروها على أنّها واحة للديمقراطية، تقدّم لهم مجموعة من الخدمات، التي تتمثّل بترويجهم إعلاميّاً، كما تتمثّل بمنحهم الجوائز، وتقديمهم إلى المحافل الأدبية والفنيّة العالمية وعلى رأسها جائزة نوبل المعروفة (حسب ما أعتقد).
طابور طويل من الكتّاب المرتزقة والمتنفّعين الذين قدّمت (إسرائيل) الرّشاوي لهم، ابتداءً ببورخيس الذي زارها في أعقاب حرب 73 خوفاً على زوالها، مروراً بميلان كونديرا الذي كرّمته (إسرائيل) بما يسمّى بجائزة أورشاليم، وانتهاءً بماريّا بارغاس يوسّا صديقها وربيبها الأثير الذي حصل على جائزة نوبل للآداب في العام 2010. ينبغي ألا ننسى هنا الروائي الإيطالي المعروف (إمبيرتو إيكو) صاحب رواية اسم الوردة الذي ترجم الصهاينة له أحدث أعماله الروائية (مدافن براغ)، والذي يقول فيها إنّ اليهود هم الذين كانوا وراء ظهور الثورة الفرنسية!
مؤخّراً وقع بين يديّ كتاب لدانييل ميتران وهي زوجة الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران. الكتاب عبارة عن سيرة ذاتية للكاتبة، وهي تتحدّث فيه عن مجموعة كبيرة من البلدان التي زارتها، والتي كانت قد عانت الاضطهاد والاحتلال وقامت بالثورة فانتصرت في نهاية المطاف. لقد تحدّثت عن كوبا، وعن فيتنام وعن دول أفريقية، ولكنّها حين تحدّثت عن الشّعب الفلسطيني تحدّثت عن الإرهاب (كما تقول) الذي يمارسه الفلسطينيون ضدّ دولة (إسرائيل)!! ثمّ عن منظّمة التّحرير الفلسطينية التي عدّلت من سلوكها فيما بعد، فقبلت بمبدأ السّلام واعترفت ب(إسرائيل). طبعاً كان كلّ ما قالته دانييل عن القضية الفلسطينية لا يتجاوز صفحتين من الكتاب!
لم تعد القضيّة الفلسطينية مجرّد نزاع حول أرض محتلّة صغيرة اسمها فلسطين، بقدر ما أصبحت ضميراً للبشريّة قاطبةً، ورمزاً لمعاني العدل والحرّيّة والجمال في العالم.
بناءً على ذلك أصبح الموقف من هذه القضيّة يمثّل الأساس الذي يقوم عليه موقف الإنسان في الحياة بشكل عام، كما هو موقف كلّ من الشّاعر والرّوائي والفنّان. ومثل هذا الكلام لا ينسحب على المبدعين الفلسطينيين والعرب فقط، وإنّما على المبدعين في كلّ مكان في العالم. من هنا فإنّ التّفريط بفلسطين من قِبَل أي كاتب أو فنّان، ومغازلة المجرم الصّهيوني هو بمثابة خيانة للفنّ.
لا يُعقَل على الإطلاق أن يكتب أحدٌ ما عن الحبّ، وأن يمتدح الجمال والطّبيعة والطّفولة، وفي الوقت نفسه يمتدح دولة (إسرائيل) المجرمة، التي تقتل الناس وتهدم البيوت وتحرق الأشجار. وهو إن فعل ذلك فإنّه يكون مجرّد كذّاب ومحتال، وخائن للفنّ.
خونة الفنّ هؤلاء الذين يمالئون المجرم، غالباً ما ينتجون أعمالاً بائسة حتى ولو تقنّعت بقناع الإبداع. إنّ نظرةً فاحصة إلى هذه الأعمال لتكشف عن حجم الخُواء الذي يتغلغل في أعماقها، ويفرغها من أي قيمة.
- فلسطين
Yousef_7aifa@yahoo.com