أسير في شارع مأهول من الحفر من غير هدى لا أعلم أين تأخذني خُطاي ولا أدري كيف أبصرُ طريقي ؟! ولكنني مشيت وأخاف أن أسقط في واحدة فتكون النهاية! لذلك خطواتي لا تكاد تبعد بعضها عن بعض. وجلاً خائفاً زائغ البصر حتى على غشاوتهما من دخان وغبار كثيفين ونيران يغلي سعيرها وشظايا تتطاير فتصيب من تشاء فأتلفَّتُ يمنة ويسرى لعلي أصل إلى ما تطمئن به نفسي من الأمان!
ولكن لا أمان في كل شبر من هذه الأرض فأصوات المدافع وأزيز الطائرات القاذفة وهدير الرشاشات المميتة تحيط بنا من كل حدب وصوب يا إلهي هل هي الآخرة؟!! فلا أرى بشراً يسير على الأرض إلا جثثاً مجندلة على الطرقات ستعبث بها الكلاب والجرذان وأسراب الحشرات في وقت لاحق إذ ليس هناك ما يُسمّى بحقوق للإنسان حياً كان أو ميتاً إلا على ورق يثرثر بها رجالٌ لا يملكون سلطةً يُسمون حقوقيون، حين تسكت المدافع ويتوقف كل شيء حينئذ تتوقف الحياة معه، ما عدا جسارة رجال مغامرين يعبثون في بقايا من بقايا قبل أن تبدأ حياة القصف مرة أخرى فيختبئون تحت أسقف قد تنهار في لحظات قليلة، ويشتد بي العجب وأنا أتحسس جسمي أنْ ما زلتُ حياً!! بقلبٍ ينبض وعقلٍ يدرك وإن كان بهواء شديد التلوث برائحة البارود.
هذه رؤيا حقيقية لساكن تلك المدينة التي تتبعها لعنات الحروب والخراب قد أُثخنت بجراح كلما بَرِئتْ منها عاودتها آلام المخاض من جديد لتلدَ حرباً جديدة تدمر كلَّ شيء بأمر ساستها ورجالها، وكأنّ المعريّ يرى ذلك بأم قلبه:
يسوسون الأمورَ بغير عقلٍ
فينفذ أمرهم ويقالُ ساسة
فأفَّ من الحياة وأفَّ مني
ومن زمن رئاسته خساسة
فمنذ زمن بعيد عندما قرأت سقوط بغداد بيد التتار على يد هولاكو لأول مرة وما صاحبها من أحداث يُدمى لها الجبين من قتل آلاف الأبرياء وخراب الدور وحرق الأخضر واليابس واستباحة الدماء والأعراض فلا الرجاء رقّق قلباً ولا التوسل أبقى حياةً، حتى أصبح ماء دجلة والفرات ممزوجاً من اللونين الأحمر والأزرق من الدماء ومن حبر الورق الذي أُتلفت المخطوطات القيّمة والعلم المدون بها، فضاع على أثره علماً كثيراً لم يصلنا، وضاعت عاصمة الخلافة معه في الرِكَاب حتى أضحتْ أثراً بعد عين وبكاها من بكاها من العلماء والمؤرخين والشعراء، حتى قال أحدهم:
قف في ديارِ الظاعنين ونادها
يا دارُ ما فعلتْ بكِ الأيامُ
يا دارُ أين الساكنون وأين
ذياك البهاء وذلك الإعظامُ
منْ كان مثلي للحبيب مفارقاً
لا تعذلوه فالكلام كِلامُ
ويذيبُ روحي نوح حمامة
فكأنما نوح الحمام حِمامُ
يا غائبين وفي الفؤاد لبعدهم
نار لها بين الضلوع ضِرامُ
فنسجتُ من ذلك في مخيلتي هالة كبيرة من الخراب والدمار ظل في ذاكرتي لا يراوحها كلما سمعت أو قرأت عن دمار مدينة من المدن! حتى رأينا وسمعنا سنة 2003م سقوط بغداد بأيدي الصليبيين وما أشبه الليلة بالبارحة فطغت صورة الموت والقتل والدمار والخراب والنهب والسلب الحقيقية على الصورة السمعية الافتراضية القديمة مباشرةً حية رأي العين بعد طغيان الصورة السابقة على الذاكرة ردحاً من الزمن وليس المعاين كالمُخبَر وما بين أيام التتار وأيام الأمريكان أقرب النسب تخللها سقطات واحدة تلو الأخرى على يد البويهيين والصفويين والإنجليز ولكنها سقطات تنهض بغداد بعدها سريعاً أما هذه فقد استمرت عقداً من الزمن والمارد البغدادي يراوح مكانه متذكراً مقولة الرشيد للسحابة (اذهبي أنّا شئت فإنّ خراجك سيأتيني).
أين الرشيد وقد طاف الغمام به
فحين جاوز بغداداً تحداه
لم تكن عاصمةً للخلافة فحسب وإنما هي حضارة العرب وعمقهم الاسترتيجي السياسي والثقافي والفكري بكل أطيافه وألوانه، لم تنهض بعد بلد الأساطير والعجائب بلد المنصور والرشيد وابن حنبل والجاحظ وأبي تمام والبحتري بلد السندباد والجواهري والسياب وما أردتَ فسمِ كيف تشاء؟ فهم كالحلقة المفرغة لا يُدرك طرفاها!: وسائلي عن لظى في القلب يعتملُ
موَّله في هوى بغداد منشغلُ
فبغداد الآن ليست مدينة بل هي بقايا مدينة!!