في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- زار سلمان الفارسي رضي الله عنه، أخاه أبا الدرداء رضي الله عنه في بيته، فلم يجده ولكنه وجد زوجته، وكان ذلك قبل فرض الحجاب، فرآها خالية من الزينة، تلبس ملابس رثة، فاستغرب سلمان من وضع زوجة أخيه، الذي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبينه، فسألها: ما شأنك متبذلة؟ قالت: إن أخاك أبا الدرداء، ليس له حاجة في الدنيا، يعني مشتغل في العبادة، يقضي وقته بصيام النهار، وقيام الليل، ليس في برنامجه وقت لها كي تتزين له -طبعا هي امرأة مسلمة لا تتزين إلا لزوجها- فانشغال زوجها عنها جعلها لا تهتم بزينتها، ولا تأبه بأي حال تكون عليها، يقول البخاري -رحمه الله- راوي القصة: فَلَمَّا جَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ قَرَّبَ إِلَيْهِ طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ سلمان رضي الله عنه: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قَالَ: فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لِيَقُومَ، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ لَهُ: نَمْ، فَنَامَ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الصُّبْحِ، قَالَ لَهُ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ، فَقَامَا فَصَلَّيَا، فَقَالَ سلمان لأخيه أبي الدرداء: إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. فَأَتَيَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَا ذَلِكَ له، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: (صَدَقَ سَلْمَانُ).
فمن خلال هذه الحادثة، يتبين: أهمية التوازن في الحياة، وضرورة التوفيق بين الحقوق والواجبات، وأن يكون المسلم متزنا في جميع شئونه، لا يهتم بأمر يكون اهتمامه به على حساب غيره، وذلك مطلب شرعي، وواجب إسلامي. يجب على المسلم، أن يؤدي ما يطلب منه، وأن يقوم بما يجب عليه، على حسب مكانته ووضعه وحالته، فكونه عبدا لله، عليه أن يقوم بواجبات عبوديته لخالقه ورازقه، وكونه ربا لأسرة، فعليه أن يقوم بواجبات زوجته وأولاده، وعندما يحل عليه ضيف، يجب عليه أن يقوم بواجبه لضيافته، ومع ذلك عليه أن لا يهمل نفسه، ولا يرهقها بترك ما يجب عليه لها، فإن لنفسه عليه حقا، ولربه عليه حقا، ولضيفه عليه حقا، ولأهله عليه حقا، فعليه أن يعطي كل ذي حق حقه.
فإعطاء كل ذي حق حقه، هو مبدأ الناجحين، ومنهج الناجين السالمين من تبعات الإهمال والتقصير، وما فشل أكثر الناس في الحياة، بتركهم للواجبات، وتقصيرهم في تأدية الحقوق والمهمات، إلا بسبب مخالفة هذا المبدأ المهم العظيم وعدم العمل بهذا التوجيه النبوي الكريم.
فبعض الناس على سبيل المثال: تجده باستراحته، متميزا بين أصحابه، لو تأخر لحظات عنهم لافتقدوه، لا تحلو جلستهم ولا سهرتهم إلا بوجوده، ولكنه فاشل مع أهله ـ بمعنى الكلمة ـ بل وفاشل حتى في عمله، لأن ارتباطه مع أصحابه، وتقضية وقته بالسهر واللعب والضحك معهم، على حساب أهله وعمله، فالأهل حقهم منه التقصير والإهمال، والبعد والهجران، والعمل حقه منه الكسل والنوم، وتعطيل مصالح المسلمين. فهذا هو الفشل الذريع بعينه.
وليس ببعيد من صاحبنا هذا، من يقضي وقته، ويبذل جهده، من أجل جمع المال، وزيادة الأرصدة في البنوك، فهو جيفة بالليل حمار في النهار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي صححه الألباني: (إن الله يبغض كل جَعظريٍّ جَوَّاظ، سَخَّاب بالأسواق، جيفة بالليل، حمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا، جاهل بأمر الآخرة)، فهمه وشغله الشاغل: جمع المال، ولكنه بخيل كل البخل على أسرته، مهمل لصحته، قاطع لرحمه، تارك لواجباته، قد يمضي عليه الأسبوع والأسبوعان، وهو لم يقم بزيارة أقرب الناس إليه: والده ووالدته، وتجده يعتذر بكثرة المشاغل، ويتحجج بقلة الفراغ، وعدم كفاية الوقت، وهذا الفشل بعينه!
إن تنظيم الوقت، وترتيب الأولويات والمهمات، هو المعين الأول، بعد توفيق الله تعالى، على إعطاء كل ذي حق حقه، ولذلك الوقت هو الحياة، فعلى المسلم أن ينظِّم وقته تنظيمًا مُحكمًا، بحيث يرتِّب بين الواجبات والأعمال المختلفة، سواء كانت دينيَّة أو دنيويَّة، على أنْ لا يطغى بعضها على بعض، ويقدِّم الأهمَّ على المهمِّ، وكما جاء في هذه الحادثة، التي ينبغي أن تدرس لكل فوضوي في حياته، مهمل لحقوقه وواجباته، لكي يعطي كل ذي حق حقه.
حائل