قال صاحبي : إنّ كراهية غير المسلمين، وعلى رأسهم اليهود والنصارى، واجب ديني، لا يمكن أن يكتمل إسلامك إلاّ به. قلت : طيب، ماذا تُسمي إباحة الإسلام الزواج من الكتابية؛ فهل يُعقل أن يَفرض عليك الإسلام أن (تكره) زوجتك، ومن يُفترض أنها ستكون أم بنيك؟ .. لم يجد إجابة مقنعة، ولفّ ودار يُحاول أن يجد له مخرجاً مقنعاً فلم يجد؛ فالزواج من الكتابية ثابت لا خلاف عليه، وألا يُحِبّ الرجلُ زوجته أمر لا يمت للطبيعة الإنسانية بصلة، وتفسير مُتعنّت لمدلول الولاء والبراء، لا يمكن أن يوافقك عليه عاقل، فضلاً عن أنه مُخالف لقوله جلّ شأنه: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَة} أي بين الزوجين؛ والمودة هنا هي (الحب) والعشرة الطيبة والرأفة؛ الأمر الذي ينسف مفهوم الكراهية من منطلقاته الدينية؛ فلم يجد أمامه مخرجاً إلاّ التسليم بأنّ ثقافة الكراهية، كما يُروّجها المتشدّدون، لا علاقة لها بالشريعة وما أنزل الله بها من سلطان؛ وفي النهاية اتفقنا على أنّ الواجب (فقط) ينحصر في أن تكره مُعتقده وليس شخصه كإنسان، وكراهية المعتقد، وعدم الإيمان به، حقٌ من حقوقك، فلو كنت لا تختلف مع معتقداته لاعتنقتها.
الدكتور عبد الحميد الأنصاري في كتابه (ثقافة الكراهية)، يُعيد ظاهرة الإرهاب إلى تجذُّر ثقافة الكراهية في المجتمعات العربية، ويعزوها إلى ثلاثة أسباب : الأول الإسلام (التكفيري) المتشدّد، الذي رسّخ مفاهيم وقيماً موروثة عن السلف تدعو إلى الكراهية. والسبب الثاني (تيار الإسلام السياسي) المسكون بهواجس المؤامرة، والذي يُقدّم نفسه على أنه الذاب عن الإسلام، وحامي حمى الهوية الإسلامية. أما السبب الثالث فهو تيار القوميين (كالناصرية والبعثية)؛ خطاب هذا التيار الأيديولوجي يقوم على أنّ الفشل النهضوي للأمة العربية، وتخلُّفها الحضاري، يعود إلى (الغرب) ودعمه لإسرائيل. والفكر القومي العروبي فكرٌ أحادي حاد، تعبوي، شعاراتي، مُوغل في التعصب، يحتكر (الحقيقة) ويُخوّن كل من اختلف معه. ويقدم الدكتور الأنصاري في كتابه الأدلة المدعومة بإحصاءات وشواهد على نجاح دعاة (ثقافة الكراهية) في اختراق مجتمعاتنا.
وفي تقديري أنّ السبب الأول المتعلق بالمفاهيم السلفية الإقصائية، يعود إلى أنّ كثيراً من القناعات (الموروثة) تلقاها المعاصرون عن السلف بالقبول، دون تمحيص، ودون أن يُفكروا فيها، ودون أن تكون أدلتها التي يتكئ عليها القائلون بها (مُحكمة الدلالة)؛ ومعروف عند الأصوليين أنّ ما يجوز فيه الاحتمال لا يصح به الاستدلال؛ فإباحة الزواج من الكتابية - مثلاً - يُضعف استدلالاتهم، ويهز أركان (إحكام الأدلة) التي يستدلون بها؛ وقد التقط أساطينُ الإسلام السياسي، كالمودودي وسيد قطب، هذه الفكرة من المتشددين السلفيين، وحوّلوها إلى فكرة محض سياسية، وفي الوقت ذاته (ثورية)، ثم وظّفوها في مواجهة الغرب الذي هو (العدو) في منظومتهم الأيديولوجية؛ ووجود (العدو) هو بمثابة الركن الركين الذي يستطيع من خلاله المتأسلم السياسي التعبئة والحشد واستقطاب المناصرين.
ومن يُقارن بين خطاب القوميين في الخمسينات والستينات وبداية السبعينات من القرن الميلادي المنصرم، بخطاب المتأسلمين الآن، يكاد يجزم أن المتأسلمين المعاصرين ورثوا الخطاب نفسه من التيارات القومية، بعد أن أفلس القوميون، وفشلوا تنموياً، وعلى وجه الخصوص (اقتصادياً)، وعجزوا من خلال أنظمتهم التي قفزت إلى سدّة الحكم في الدول العربية أن يُقدموا حلاً حضارياً؛ غير أنّ الورثة - أعني المتأسلمين - غيّروا الشكل، وانتقوا المرجعيات والمقولات التي تتواءم مع ثوريتهم، وبعض الجزئيات التفصيلية من الداخل، أما مضمون التركة، وعلى رأسها (ثقافة الكراهية)، فبقيت كما هي لم تتغير؛ فالشعارات ظلّت تتحكّم في الخطاب، ومحاكاة العواطف لا العقول هي فصل الخطاب، والديماغوجية هي الرابط الذي تقوم عليه أي فكرة لدى السلف والخلف، والغاية أو الهدف الذي كان يسعى إليه القوميون (دولة الوحدة العربية) أصبحت عند المتأسلمين (دولة الخلافة الإسلامية)، وبقيت كما كانت لدى هؤلاء و أولئك مجرّد حلم فارغ، وشعار براق، لا علاقة له بالواقع.
وبعد؛ فلن تقوم لنا في عصر العولمة تنمية حضارية واقتصادية في الصناعة والتجارة والعلوم والابتكارات فضلاً عن التواصل مع العالم المتفوق إلاّ إذا تخلّصنا من تشوّهاتنا الفكرية، وأهم هذه التشوّهات هي (ثقافة الكراهية) البغيضة، التي هي من أهم العوائق أمام تحقيق هذه الأهداف.
إلى اللقاء ..