أعادني أستاذي الدكتور عبد العزيز الجار الله، المسكون بالأماكن البرية والمدنية، إلى التراث القديم، وقصائده العفوية، بعد أن مزجه بالتنمية.. للدكتور الجار الله ملكة في حفظ الأماكن وربطها بالأبيات الشعرية التاريخية التي قيلت فيها، وهو بارع في وصف المواقع وتحديدها بدقة.
في مقالته (الحزينة) «قطع شارع البطحاء» تأسف الدكتور الجار الله على ما وصلت إليه أحياء الرياض القديمة من إهمال قادها إلى تغيير كلي في تركيبتها السكانية.. ونعى شوارعها في قوله «شارع الخزان وجواره أصبح وجهاً من وجوه جنوب وشرق آسيا بكل مكوناته وثقافته حتى رائحته، هي تلك الرائحة في مدن وشوارع شرق آسيا تشتم رائحة البهارات وعرق المتجولين يفوح منها بهار الشرق».
أكمل من حيث انتهى الدكتور الجار الله، مُضيفاً، للقصيدة التي تغنى بها سلامة العبد الله، رحمه الله، واتخذ منها عنواناً لمقالته، بيتاً محرفاً، وأقول: (سألني عن الديرة، ومن أهمل العمران ## وجاوبته باستحياء، أفكار معتَلَّة)، عندما تغيب الرؤية التنموية، ويتساهل الإنسان في التخلي عن بيئته الأولى، تتهاوى تلك القصور الجميلة والعظيمة فتتحول إلى خرائب خاوية، وكانتونات (عالمية) تتقاسمها العمالة الوافدة، والمخالفة وتُرتكب فيها أنواع المخالفات.
من أوصل تلك الأحياء إلى الحالة المتردية التي هي عليها اليوم، ومن حرم سكان الرياض من أهم الأحياء التي كان من الممكن أن تعالج مشكلة السكن وتسهم في فك الاختناق عن شمال الرياض؟. قصور النظرة التنموية مسؤولة عن ذلك الإهمال الذي طال قلب الرياض النابض، وتاريخها الجميل.. لم تحسن الحكومة التعامل مع تلك الأحياء، فتسببت في تحولها إلى أحياء تسيطر عليها العمالة الوافدة، وتتحكم بها، وتديرها بمعزل عن الجهات التنظيمية.. ولم يحسن القطاع الخاص، أيضاً، التعامل مع الفرص الاستثمارية المتاحة ولم تكن لديه الرؤية الاستثمارية التنموية التي كان من الممكن أن تحقق لهم، الربح والتنمية في آن.
لا أعتب على المستثمرين من خارج الرياض، ولكن أعتب على رجال المال الذين ولدوا وترعرعوا في تلك الأحياء، ثم هجروها وتركوها للعمالة الوافدة.. في دول الخليج، تم إعادة بناء الأحياء القديمة على ما كانت عليه من قبل، وتحولت إلى مناطق جذب سياحي من الدرجة الأولى، وأنشأت فيها وعلى أطرافها الفنادق والمقاهي ومراكز الترفيه، وأعيد تنظيم بعض الأحياء القديمة وتحويلها إلى أحياء نموذجية للسكن والتسوق والترفيه.. وأعيد تطوير بعض الأحياء القديمة وتحويلها إلى مناطق جذب اقتصادية.
في دول الخليج، دبي على سبيل المثال، لعب القطاع الخاص دوراً مهماً في التطوير والبناء، وأسهمت الحكومة في وضع الخطط والرؤى الشاملة، وعملت على تسهيل إجراءات الاستثمار والتطوير ما ساعد في تحقيق التنمية الشاملة التي حوّلت وجه دبي إلى ما هي عليه اليوم.. لم يستطع القطاع الخاص فعل ذلك محلياً، تأسيس شركات التطوير العقاري لم يساعد في تحقيق الهدف، بسبب العقلية المسيطرة على تلك الشركات.. طغى الفكر العقاري التقليدي على الفكر الاستثماري التنموي الحديث، فتقوقعت شركاتنا العقارية وتقلصت أنشطتها.. على العكس من ذلك بدأت شركات التطوير العقاري في دول الخليج بفكر حديث وأسهت في إحداث نقلة نوعية لمدنها على الرغم من قلة الموارد المالية، ساعدها في ذلك الدور الحكومي الذي وضع الرؤية وسهّل إجراءات الاستثمار والتطوير ودعم القطاع الخاص لتحقيق التنمية المستدامة.
في الرياض عجزت «الشركة العقارية السعودية» التي تأسست عام 1976 عن تحقيق عُشر ما حققته شركة «إعمار» الإماراتية حديثة التأسيس مقارنة بها!.. لم ينته الأمر عند ذلك الحد بل إننا أصبحنا في أمسّ الحاجة للشركات العالمية والخليجية لمساعدتنا على تحقيق أهدافنا التنموية، وهذا إعلان رسمي بالفشل.. الرئيس التنفيذي لشركة إعمار العقارية، محمد العبار، صرح بأن الشركة «تخطط لتطوير مشروع داون تاون في الرياض على غرار دوان تاون دبي»، مشروع مهم جاء متأخراً عن وقته.. أثق بقدرات «إعمار» وبفكر السيد محمد العبار، وأتمنى أن يتحقق ذلك المشروع سريعاً.
سعودة المشروعات وإغلاق السوق أمام الشركات الخليجية والأجنبية أضر بالتنمية الحديثة، وجعلنا متخلفين، في مشروعات التطوير النوعية، مقارنة بالدول المجاورة.
الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض، أقرت مؤخراً، «خطة تطوير وسط مدينة الرياض»، كل ما أتمناه أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون، وأن نتبع ولا نبتدع، فنماذج النجاح كثيرة، وكل ما نحتاجه هو تطبيقها محليا.. «أعط القوس باريها» حكمة أتمنى أن تطبق على مشروعات وسط الرياض، من حيث التخطيط والتنفيذ والإشراف.. المشروعات النوعية هي ما تحتاجة أحياء الرياض المنسية، كي تعود إلى واجهتها الحضارية المستحقة.
f.albuainain@hotmail.com